معمول بمحبة..

الجماهير / يمنى حمامي

لا أظن أن مشاهد عيد الفطر السعيد ، و ما يسبقه من مراسم و مهرجانات لاستقباله ، قد وثبت من حياة أحدكم ، أو تخطته دونما أدنى أثر !!!
بل متيقنة أن معظم الناس ، في هذه الأثناء ، لم يتعبهم شيء ، كصندوق الذكريات المحمول على اكتافهم ، يتنسمون منه بين حين وآخر عبق الماضي ، من لا ماضي له ، لا حاضر له ، وجه بصيرتك الآن هناك في طرف الصندوق ستجد صورا بعضها فوق بعض ، أزح عنها غبارك ، و تفحص تفاصيلها ، و تحسس بيدك على وجوه من رحلوا ، واضغط بأصبعك على ملامح وابتسامات من غرسوا فينا المحبة بكل جزيئاتهم ..
و لا تغرق نفسك بذيول الماضي ، إنما ارتديه كوشاح يقيك صقيع الحاضر وأنياب المستقبل ..
ستمتد يد والدتك من ذاك الصندوق ، و تشد على معصمك ، لتمنعك أن تقتات على بقايا العجين ، و كعكها المخبوز بالفرن ، و الذي رائحته جذبت القاصي والداني خلف باب البيت ، لا.. لم تغب تلك اللحظات ونحن متحلقين حول امي ، و هي تغني وتشدو بأغان العيد و طاولتها المستديرة تترأسها يداها الحانيتان على قوالب الكرابيج والمعمول !!! المعمول بمحبة و حنان ،، كيف لا ، و قد اختلطت أنفاسها مع الطحين و دندناتها مع رق العجين ، وابتساماتها خلقت فوق الطعم تراتيل وترانيم ، لقد كنا نأكل ونشبع ، و نستمتع ، لكنني اليوم آكل لأعيش يا أمي !! بات كل شيء بلا طعم ولا رائحة ..
تكبيرات تصدح هنا وهناك ، معلنة اقتراب العيد والحارات تستقبل صداها ..
وتخزنها بين حجارتها والممرات .. لم تتآكل يوما جدران بيوتهم ، فلقد كانت الأمهات يتفنن في تنظيفها و رشها بالرغوة العطرة والماء ، كانت انفاس طيبتهم تحيي كل المدارات حولهم ، حتى ذاك الصنبور !! و الذي سقى فينا خلايانا وكل الارجاء والحجرات !!
بالفعل أنا اعذرهم ، فعندما كنت أتمشى ، كانت تغريني تلك الستائر المتطايرة خلف الابواب ومثبتة بالدهاليز ، لا يتخطاها حينها إلا كل قريب وعزيز ، كنت طفلة لا أجيد التسكع ، لكنما اليوم ، تفاصيل الماضي تتقن التسكع في روحي وتتخطى كل الإشارات .
هل كنت ألهو على الالعاب حينها ؟؟ هل كان شغفي عميقا وأنا أراهم يضعون ( المراجيح و القلابات) .
هل لو صعدت الآن ب ( الدويخة) واغمضت عيناي ، سأفتحهما على رفاق الطفولة وضحكاتهم وهم يبرمونها بأيديهم ؟!
ربما لحظتها كنت سألجأ لجيب قميص والدي ، كي استل منه العيدية ، و اهرب لآخر الحارة مع اخوتي وانا ارتدي فستان العيد المكشكش الذي حظيت به ودفعت ثمنه حنان أمي وسهرة ليلة العيد و هو بجانبي !!
لم اكن اعلم ان والدي ارادني الأغنى نفسا ،وأمي ارادتني الاجمل روحا ،، نعم ، فأنا لم اكن أتباهى بنقودي و فستاني الجديد فحسب ، لقد كنت أعيد الجميع بابتسامتي و فرحي ، و كنا نهدي الفرح باقات من حب و آيات لأرواح من رحلوا أيضا ونعايدهم في صبح كل عيد ، و نلقي عليهم التحية و نتمنى لهم مقاما طيبا حيث يوجدون ، ولا تربطنا بهم سوى بعض أحلام وشواهد قبور !!
أود لو أخبرهم ، أن كل شيء ليس على ما يرام ، فالجيوب اتسعت والأيادي انقبضت ، و أن العيدية انقرضت ، وأن ذرياتهم يتنفسون ، ولكن لا يستمتعون ، النعم وفيرة والرحمة شحيحة ، والاجساد مبنية والارواح خالية ، وأن المسافة بيننا وبينهم كبيرة ، والبصيرة ضريرة ، و لسنا بارتياح ، ولا نقوى على الوقوف بوجه الرياح ، كل ذلك لأن ما حولنا لا يشبهنا !!
شهرنا الفضيل انصرمت أيامه ، و دنت أيام العيد ، سنفعل ما بوسعنا لنسعد أبناءنا و نلبسهم الجديد ، و سنحيك من الفرح خيوطا نجمع بها العيديات من جديد ،
و سنسقي بذور الطيب في ارواحنا ، لينبت الحب و لا تصاب أرواحنا بالشيخوخة باكرا ، و سنظل نهنئ الجميع في مناسباتنا ونتمنى لهم الصحة والعمر المديد .
و كل عام والجميع بألف خير .

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار