من أشهر النساء في التاريخ العربي .. ليلى بنت لكيز العفيفة

د . عبد الحميد ديوان

تحتل ليلى (العفيفة) بنت لكيز بن مرة بن أسد بن ربيعة بن نزار العدنانية ،مكانة رفيعة بين نساء العرب اللواتي خلدهن شعرهن وعملهن أيضاً فقد لقبت بالعفيفة لأنها ضربت أروع الأمثلة في العفة في تاريخ المرأة العربية.
ومع أنها عاشت في عمق الجاهلية إلا أن أخبارها وصلتنا لما في هذه الأخبار من تصوير لعفة المرأة العربية وعزة نفسها وفصاحة بيانها ،فقد حباها الله لساناً فصيحاً فكان شعرها جزل اللفظ بديع المعنى بالإضافة إلى جمال ساحر كانت تتزين به وتزين سيرتها العطرة.
ولما كان لليلى هذه المكانة وتلك السمات التي ميزتها على أقرانها من جمال ساحر ولفظ آسر ومنطق شاعر فقد تقدم لخطبتها كثيرون من سراة العرب وعظمائهم ،ومنهم عمرو بن ذي صهبان أحد أبناء ملوك اليمن إلا أن ليلى رفضت هؤلاء الخطاب ،ورفضت معهم حياة البذخ التي كانت تمنى بها من قصور فخمة وحرير ناعم وجواري وخدم وحشم ، وكل ألوان النعيم والترف، وكانت تفضل الزواج في قومها لأنها تعتبر حياتها لاتعرف السعادة إلا في ظل تلك الخيام والصحراء (وفي هذا تذكرنا بميسون بنت بحدل التي رفضت ملك معاوية وقصوره وفضلت الخيام والصحراء مع الحرية) .
وكانت لليلى العفيفة هذه ابن عم اسمه البرّاق بن روحان ،وكانت تحبه وترغب في الزواج منه، وكان البراق يحبها ويرغب في الزواج منها،فصارحت الابنة أباها بما تحمله لابن عمها من الحب ومايحمله لها، فوعدها أن يزوجهما بعد أن يعود من تجارته في اليمن.
وبعد أن عاد من اليمن وفد إليه ابن أخيه البرّاق ليذكره بوعده لهما بأن يزوجهما بعد عودته من اليمن ،إلا أن لكيزاً كان قد بيّت في نفسه أمراً لم يفصح عنه بوضوح ،وهنا راحت الشكوك تتراءى أمام ليلى ولم تعرف ماذا يقصد أبوها بسكوته.
وراحت تتذكر كيف أتى والدها من اليمن وهو محمل بالهدايا والتحف وظنت أنها ستكون من نصيب البرّاق ،وخاصة عندما ذكرت خالتها أم الأغر (أخت كليب) والدليلي قائلة له:عجل يالكيز في عرس ليلى على البراق ،إلا أن لكيزاً تعلل بأمور أخرى ولم يجب خالتها بشيء. عند ذلك ظهر القلق على وجه ليلى وذهبت بها الظنون كل مذهب .
وكان لكيز قد وعد وهو في اليمن عمرو بن ذي صهبان أن يزوجه ليلى ، وأعطاه عمرو من الذخائر والتحف والهدايا ليعطيها لها.
وقدم لكيز الهدايا لليلى وهو يقول لها: هذه هدايا الأمير عمرو بن ذي صهبان لك ياليلى.فانتفضت ليلى بغضب وقالت : ماذا تقول يا أبي ،قال : انظري إلى هذه الهدايا الرائعة التي أرسلها لك الأمير.
فقالت في استغراب: وما شأن الأمير عمرو بن ذي صهبان بي حتى يبعث إليّ بهداياه؟
فصمت لكيز على مضض،وبعد دقائق قال لها: أي بنيه،إن قبيلة ربيعة تفخر بليلى واحدة، هي أنت يا ابنتي ،لقد تناقلت الركبان سيرة أدبك وكمالك وعفتك وحبي لك، فهل ألوم أو تلومين الأمير عمرو بن ذي صهبان إذا أعجب بك وأرسل له الهدايا تعبيراً عن هذا الإعجاب وراح يرغبها في كثرة الهدايا الثمينة التي تنوعت فيها الجواهر واللآلئ النادرة وكذلك أقمشة الدمقس والحرير.
صعقت ليلى بما سمعت من أبيها وعرفت أنه يهدف إلى تزويجها لهذا الأمير الذي غمره بالهدايا والعطايا ،وحاولت أن تثني أباها عن هدفه ،ولكن هيهات فقد عقد أبوها العزم على تزويجها بهذا الأمير طمعاً بالمال الذي يملكه والسلطة التي يحوزها والمكانة العالية التي سترفعهم إلى مراتب اجتماعية لم يكن يحلم بها. إلا أن ليلى لم تيأس من محاولاتها ،فقالت لأبيها: أنسيت يا أبي أن ابن عمي البراق قد خطبني إليك منذ زمن، فوعدته أن تزفني إليه بعد عودتك من اليمن. قال لكيز: لا ياابنتي إنما أريد عمرو بن ذي صهبان الأمير . فقالت ليلى: أتحفر ذمة البراق ،وتنكث معه عهدك وهو ابن أخيك ودمه من دمنا؟؟.
فقال : إنما أريد أن ننفذ جميعاً إلى النعيم ودنيا الحضر، ونترك البادية وسكنى الخيام ورعي الغنم. وبعد أخذ ورد طال زمنه لم تجد ليلى نفعاً في مناقشة والدها فسكتت على مضض ثم قالت لأبيها : أنا غير مقتنعة بكلامك يا أبي ولست راغبة في هذا الأمير ..ولكنني لن أخالفك في أمرك ولتكن مشيئتك ،ولو كانت على الرغم مني ،ثم غادرت مكانها وانفردت لوحدها بعيدة عنه،وراحت توقظ أحلامها في نفسها وتستعيد شريط الذكريات مع ابن عمها وحبيبها البرّاق وكيف كانا سعيدين عندما كانا طفلين يمرحان في الديار ويلعبان على العشب الأخضر في مراعي القبيلة.
وفي اليوم التالي لهذا اللقاء الصعب مع أبيها انتشر خبر خطبتها من أمير اليمن في القبيلة انتشار النار في الهشيم ،وحسدتها فتيات القبيلة وهن يظنن أنها سعيدة بهذه الخطبة ولم يعلمن أنها تكاد تموت من الهم والحزن لمصابها الجلل.
وسمع البراق بخبر الخطبة ،فكاد البراق يصعق من هول المفاجأة ولكنه تماسك وتجلّد أمام هو المفاجأة حتى لايرى أحد ضعفه ويسقط في نظر من يعرفه الفارس المغوار والبطل الصنديد الذي لايهزه شيء.
وفكر البراق طويلاً ..هل لليلى رغبة بهذا الأمير وهي وافقت عليه.. وراحت تأكله الظنون وتذهب به الأفكار كل مذهب ،وترتسم أمامه خيالات سوداء مما جعله يعزم على الرحيل بعيداً عن ليلى وأبيها فقد كسر الحزن قلبه ولم يعد يقوى على البقاء في الديار ، وحاول أبوه وأخوه ثنيه عن الرحيل ولكنه صمم على الرحيل.
وفي الصباح الباكر شد البراق وأهله رحالهم واتجهوا إلى البحرين ،ومر البراق أمام خيام أهل ليلى فرآها شاخصة إليه ببصرها والحزن يلف عينيها وأشاح ببصره عنها ولملم أطراف دموعه قبل أن تنسكب خجلا ًوحياء وأسرع في سيره لعله ينسى هواه المجروح،وفاضت نفس ليلى حزناً وحسرة ،واغرورقت عيناها بدموع الشجن، وحزّ رحيله في نفسها فراحت تنشد الشعر في رحيله قائلة:
تزوّد بنا زاداً فليس براجع
إلينا وصال بعد هذا التقاطعِ

وكفكِف بأطراف الوداع تمتعاً
جنونك من فيض الدموع الهرامع

ألا فاجزني صاعاً بصاعٍ كما ترى
تصوِّب عيني حسرة بالمدامع

ثم كفكفت دموعها وبقيت تتسلى بحديث الذكريات علها تسترجع أيامها الجميلة مع حبيبها الغائب المهاجر.
وبعد رحيل البراق بزمن قصير عن قومه حدثت معركة بين قبيلة ربيعة وطيء كانت الغلبة فنها لطيء لأن فرسان ربيعة الشجعان كانوا مع البراق وهو فارس القبيلة التي كانت تهابه جميع القبائل.
وأخذت ليلى مع قومها سبايا وغنائم في أيدي الطائيين.
ولما علم زعيم الطائيين نصير بن لهيم بأنهما أسيرتان عنده،أمر أن تحاط ليلى وأم الأغر بالرعاية،وكانت ليلى وأم الأغر تذرفان الدموع طيلة رحلة الأسر إلى بلاد طيء ،وكانتا تتناجيان وتتمنيان لو أن فرسان ربيعة يعودون مع البراق لإنقاذهما.
ولم يخب ظن ليلى فقد بدأ البراق يعد العدة لإعادة ليلى إلى ديارها وتخليصها من الأسر بعد أن علم أنها سبية في مضارب طيء.وراح يجمع الفرسان من بني أسد وربيعة وغيرهم ودارت المعارك التي استطاع فيها البراق أن ينقذ نساء القبيلة وبينهم ليلى.
ويبدو أن لكيز لم يفقد الأمل في تزويج ليلى لأمير اليمن،وفعلاً أتاه الخبر من أميرها أن يجهز ليلى ويأتي بها إلى دياره،ففعل إلا أنه وقبل أن يصل إلى حدود اليمن تعرض للقافلة خمسون فارساً يتقدمهم فارس اسمه برد بن طريح (كان قد خطب ليلى ولم يزوجها أبوها له) وحملوا عليهم واستطاع أن يخطف ليلى ثم قال لأبيها : سأقدمها لابن ملك الفرس هدية له وانتقاماً منك ومنها.
وهنا تدخل القصة في إطار الأسطورة التي تجعل من البراق فارساً يشق الجموع ويهزم الجيوش وكأنه (عنترة بن شداد في ملحمته).
وكانت ليلى تعاني من ذل الأسر وتبكي فقدها البراق فراحت تنشد الشعر تحثه على القدوم إليها لتخليصها من ذل الأسر والبعاد فتقول:
ليت للبرّاق عيناً فترى
ما ألا قيه من بلاء وعنا

ثم تنادي أبناء قبيلتها والبراق معهم لتخبرهم أنها تلاقي العذاب والهوان صباحاً ومساءً:
يا كليباً ياعقيلاً إخوتي
يا جنيداً أسعدوني بالبكا

عُذبت أختكم يا ويلكم
بعذاب النكر صُبحاً ومسا

وتؤكد بعد ذلك للبراق وإخوته ولقومها بأنها شريفة عفيفة وتؤكد بأن خاطفها وابن ملك العجم يكذبون ويدعون انهم لمسوها وتؤكد بأنهم لم يستطيعوا أن يدنو منها طالما بقيت حية:
يكذب الأعجم مايقربني
ومعي بعض حشاشات الحيا

وتخاطب الأعاجم متحدية إياهم ومظهرة كرهها لهم:
قيدوني غللوني وافعلوا
كل ماشئتم جميعاً من بلا

فأنا كارهة بغيكم
ومرير الموت عندي قد حلا

ثم تندد ببني أنمار الذين خطفوها وقدموها لابن ملك الفرس:
أتدلّون علينا فارساً
يابني أنمار يا أهل الخنا

يا إياداً خسرت صفقتكم
ورمى المنظر من برد العمى

يابني الأعماص إما تقطعوا
لبني عدنان أسباب الرجا

فاصطباراً وعزاء حسنا
كل نصر بعد ضر يرتجى

أصبحت ليلى تغلّل كفها
مثل تغليل الملوك العُظما

وتقيّدْ وتكبل جهرةً
وتُطالب بقبيحات الخنا

وراحت بعد ذلك تدعو قومها لإنقاذها من الأسر حتى لايلحق بهم العار أبد الدهر:
قل لعدنان فديتم شمّروا
لبني الأعجام تشمير الوحى

واعقدوا الرايات في أقطارها
واشهروا البيض وسيروا في الضحى

يا بني تغلب سيروا وانصروا
وذروا الغفلة عنكم والكرى

واحذروا العار على أعقابكم
وعليكم مابقيتم في الورى

ويسمع البراق أبيات ليلى فتستعر نار الغضب في نفسه وتحفر كلماتها في نفسه كوامن الحقد على أنمار والفرس فينطلق كعاصفة طاحنة تسحق كل من يقف في وجهها (وكما ذكرنا) تتجه القصة نحو الوصف الأسطوري فنرى البراق يسير نحو بلاد فارس فيقتحم صفوف الجيش الفارسي وينتقل من موقعة إلى أخرى والعدو يتقهقر أمامه حتى ينتصر عليهم في معركته الأخيرة قبل عاصمة الفرس ويخلص ليلى من أسرها ثم يعود بها معززة مكرمة والطهر والعفة ترسم على وجهها ملامحها البيضاء النقية.
ثم ينتهي بهم الأمر إلى الزواج السعيد بعد رحلة عذاب أصبحت مضرب المثل في دنيا العرب.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار