الجماهير – أسماء خيرو .
قيل : إن متعة القراءة في ديوان للشعر لاتقتصر فقط على تذوق بعض القصائد الجيدة بل تتجاوز إلى حد استشفاف روح الشاعر ونظرته وتجربته .
وأبلغ مثال على هذا القول نجده في ديوان ( ترجمان التوق ) للشاعر محمود علي السعيد الصادر عن الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين والذي يحوي مابين دفتيه أكثر من ٨٠ قصيدة شعرية تتنوع مابين الوطنية والوجدانية والإنسانية يستشف القارئ من نسقها العام المرسوم بشاعرية صوتا عميقا مشبع بالذكريات والتجارب التي تروي بصدق المعاناة المملوءة بالحنين والأنين .
فمعاناة الشاعر تبدو كإحساس متجذر في الأعماق يشير إلى المأساة حين تتجرد من أحداثها المادية الواقعية لتترسب في أعماق الإنسان إحساسا مراً باللاجدوى فتصبح حنينا باكيا ودموعا لاذعة تغص بها النفس وتفيض بها الأحداق.
ففي قصيدة” هذيان ليلي لرقم مجهول” تواجهنا بداية فلسفة خاصة يحققها الشاعر عن طريق الاندماج بماء الفطرة في محاولة لإنقاذ الإنسان من عبثية الزمن التي تحاول أن تقتل الحياة في الروح وهذا بعض ماجاء فيها / مجبول بالفطرة حتى أخمص المشاجرة / يمشي كأرجوحة الصباح المدلهم بسكرات المعجزة / يقول ما اصطفيناه من قوارب العبق / فتسقط الأمواج صرعى الشم اللاذع / كأسطوانة فقدت حاسة التذوق .
الشاعر السعيد في أغلب نصوص الديوان يعيد ترجمة معنى التوق الذي يعتبر أشد إيلاما من الشوق، توق يجرحه اللقاء حينا وحينا آخر يأخذه إلى وطنه فلسطين ليروي بأسلوبه الفني المتميز وبلغة الوجع العديد من الصور العاطفية النازفة من لهيب نار الوجد.
يقول في قصيدة “افتحي الأفق للمحب قليلاً
جوهر الوصل بالحضور غرور / دغدغيه بلفظتين سماعا / وإذا الباب دق روضك فجراً / فاشبعيه من الجمال رضاعا / حيث أوغلت في البعاد اقتراباً / يقطر الوجد باللقاء امتناعا / صمت عينيك في حديقة قلبي / سوف يبقي مدى الحياة مطاعا .
نصوص تخترق الحجب القاتمة لتنتشي في استغراق حزين مع أفكار تعيش في عقل الشاعر الذي مازال يدمر صفاء روحه جمر الفراق والبعد عن الوطن ورفيقة العمر. يقول في قصيدة ” جورية الأحداق بعدك قاتل “
عصفورة الكلمات طارت من يدي/ لما تبطأ في وصالك موعدي / ماذا اقترفت من اصطفافات الخطا / غير اقترانك بالمدار الأبعد؟/ قلبت ثغري في رضاك متيما / ولواعج القبلات لم تتوقد / وقطفت من وجع الفراق حقيقة بصماتها من جمرك المترمد .
فالشاعر كما نرى يتفنن في تجسيد المعاني ورسم الصور الشعرية، إنه يدع الكلمات تفصح عن المعنى المقصود وتجسد الملامح مستخدما المترادفات الشعرية الملائمة لطبيعة الحالة .
ترجمان التوق يعتبر سلسلة متعاقبة من الحلقات، إن جلت فيها قد تلتقي بصورة تجسد الصمت الظامئ حين يجتاح حياة الإنسان ، ببطاقة عشق لحلب التي وصفها بجوهرة القلب .بمنطق الفوضى، بالأبجدية الخرساء ، بصرخة الناجين من موج الخراب، بمن جرح من صداقة التاريخ ، بالعزلة الحزينة التي فرضتها فلسفة الهجر ، بروابي فلسطين التي كتب اسمها على جبين الشمس ، بعاشق يرقد على جمر الصبر ويغفو على جمر الحنين ، بوصية كنعان الفلسطيني ، وبإيقاع نبض الريح ، بأروقة التمني ، ومقص الرحيل الدامي ، ببيت الطفولة وبرائحة تراب فلسطين ، وبالحلم المسلوب ، وبإرادة الرفض التي تتمسك بالحياة وتتشبث وبحق العودة .
.كما نلتقي بالعديد من الصور العاطفية الناطقة التي تستلب منا نظرة الانبهار لتمنح شعر الأديب محمود السعيد ميزتي الأصالة والتفرد . وختاما أيضاً قيل ” بأن كل تفسير في الشعر يقتل صوت الإبداع فيه ” لذا آثرت أن أقدم إضاءة بسيطة عن بعض ماجاء في ديوان ترجمان التوق متذوقة للشعر لا باحثة أو دارسة فيه .