قراءة في رواية أولاد حارتنا 2-2

القصة الرابعة قاسم: نأتي لقاسم الطفل يتيم الأبوين الذي تربي في كنف عمِّه زكريا بائع البطاطا من حي الجرابيع والذي يذهب به إلى يحيى العجوز بائع الأحجبة والبخور والمسابح وتتوطد العلاقة بينهما ، ومع عمل قاسم في رعي الغنم حُبِّب إليه الخلاء والهواء النقي وحب النساء ثم يحدث الزواج بين قاسم والسيدة ( قمر) التي يرعي غنمها والتي تكبره بسنوات وفي إحدی الليالي ينتاب القلق قمر على زوجها فترسل في طلب عمه زكريا وابن عمه حسن وصديقه صادق للبحث عنه فيجدوه مغشيا عليه ولما أفاق أخبر قمر أن أحد خدم الجبلاوي ويدعي قنديل قد أخبره بأمر الجبلاوي له بالتصدي لظلم الفتوات وبعد قمر يخبر صديقه صادق وابن عمه حسن ، و عمه زكريا يحاول إثناءه خشية بطش الفتوات ومع اضطهاد أتباع قاسم وموت قمر يقرر قاسم الهجرة بعيدا عن الحارة وتصله الأخبار بأنهم يتآمرون لقتله فيهرب عبر الأسطح المجاورة تاركا مصباحه مشتعلا في شقته لتضليل المتآمرين ويقابله أتباعه المهاجرون ممن سبقوه فى جبل المقطم بالغناء ونشيد (يا محنى ديل العصفورة ) ثم يتزوج ببدرية الفتاة الصغيرة أخت صديقه صادق وبعد أن نمت قوة أتباع قاسم يهجمون على زفة سوارس فتوة الحارة وتدور معركة بالشوم والنبابيت تنتهي بانتصار قاسم وأصحابه فيقرر الفتوات الثأر فيزحفون على الجبل حيث قاسم وأتباعه ويفاجئهم لهيطة الفتوة الكبير من الجنوب وتدور معركة عنيفة يقتل فيها لهيطة .ثم يحاول رفعت ناظر الوقف أن يستأصل شأفة قاسم وأتباعه عبر استدعاء جلطة وحجاج الفتوتين لإحكام القبضة على قاسم وأتباعه في الجبل وليطمئن أن لا خلاف بينهما فيمن يصبح كبيرا للفتوات خلفا للهيطة .لكن يقتل حجاج غيلة ويدب الشقاق بين جلطة وأنصار حجاج المغدور ويحاول ناظر الوقف الحيلولة دون اندلاع القتال بين المعسكرين موضحا أنها مكيدة من قاسم لبث الفرقة ولكن نصح الناظر يذهب أدراج الرياح ويتقدم قاسم ورجاله إلى بيت الناظر والذي فر من توه ويقف قاسم أمام البيت الكبير خطيبا قائلا : ( هنا يقيم الجبلاوي جدنا جميعا لا تمييز في الانتساب إليه بين حي وحي أو فرد وفرد ) ثم وزع ريع الوقف على الجميع بالقسطاس فرأى فيه الجرابيع نموذجا فريدا لم يعرفوه من قبل ثم تعددت زيجاته ليربط نفسه بأهل الحارة جميعًا ثم مات قاسم فخلفه(صادق) على النظارة متبعا سيرته، ثم دب الخلاف بين القوم حينما رأوا أن (حسنًا) أحق بالنظارة لقرابته من قاسم، ليعود الجرابيع بعد موت صادق للتناحر وتمنَّى الناس لو عادت أيام قاسم وصادق مرَّة أخرى.
القصة الخامسة : حيث عرفة الغريب والذي يتخذ من بدروم في الحارة معملاً فكان هو و أخوه حنش يعملان على ضوء مصباح غازي مثبت في الجدار لصناعة الأعاجيب، حيث يخلط المواد بعضها ببعض مستخرجا مواد جديدة ، كان عرفة لا يصدق حكايات أهل الحارة عن الجبلاوي وجبل ورفاعة وقاسم ويقول عرفة (وما أنا فتوة ، ولا برجل من رجال الجبلاوي ولكني أملك الأعاجيب في هذه الحجرة ، ومنها قوة لم يحز عشرها جبل ورفاعة وقاسم مجتمعين) ويدير محفوظ على لسان عرفة وزوجته عواطف حوارا هاما للغاية : ( فقالت عن جبل ورفاعة وقاسم: أولئك كلفوا بالعمل من قبل جدنا الواقف ، فقال عرفة بضجر جدنا الواقف ؟ كل مغلوب على أمره يصيح كما صاح أبوك ” يا جبلاوي ” ولكن هل سمعت عن أحفاد مثلنا لا يرون جدهم ، وهم يعيشون حول بيته المغلق ؟ وهل سمعت عن واقف يعبث العابثون بوقفه على هذا النحو وهو لا يحرك ساكنا؟ فقالت : إنه الكبر ، فقال لم أسمع عن معمر عاش طول هذا العمر فقالت : ربك قادر على كل شيء فغمغم قائلا : كذلك السحر قادر على كل شيء) فدفعه فضول العلم لاستجلاء حقيقة كتاب جده الجبلاوي وسر قوته المتضمن شروط الوقف و الذي طرد أدهم بسببه فتسلل إلی البيت الكبير فحفر حفرة بمساعدة أخيه دخل منها ليرى أمامه خادم الجبلاوي الأسود العجوز فخنقه خشية افتضاح أمره ثم فر مسرعًا، وإذا به يسمع أن الجبلاوي لم يحتمل خبر قتل خادمه فمات كمدا عليه، فيشعر عرفة بالذنب تجاه وفاة الجبلاوي ويعزم على إعادة الحياة له بسحره وأن يحل محله قائلا: ( إنه يجب على الابن الطيّب أن يفعل كلّ شيء، أن يحلّ محلّه، أن يكُوْنه.) فيقتل فتوة الحارة ويفجر عددا من الفتوات الآخرين عبر متفجرات من زجاج سحري ثم تأتي خادمة الجبلاوي تنفيذا لوصية الجبلاوي ، لتخبره أن جده الجبلاوي قد مات وهو راض عنه! ثم تتوالی الأحداث و يدفن عرفة وزوجته عواطف أحياء بأمر الناظر قدري الذي حاول الاستحواذ علی سحر عرفة لبسط سلطاته وظلمه ولكن عرفة قد استطاع أن ينقذ قبيل موته الكراسة التي سجل فيها خلاصة عمله، وبحث عنها حنش في القمامة حتى اهتدی إليها وأصبح عرفة حديث الناس ورأوا أن ملاذهم الوحيد هو سحر عرفة، وواجه الناس شعراء المقاهي الذين يتغنون بقصة الجبلاوي “لا شأن لنا بالماضي ولا أمل لنا إلا في سحر عرفة ولو خيرنا بين الجبلاوي والسحر لاخترنا السحر”؛ ثم رفع أهل الحارة اسم عرفة فوق جبل ورفاعة وقاسم ولم يعد عنيهم إن كان قاتلا للجبلاوي أم لا؟ .

الجدل حول الجبلاوي:
لا مفر أمام القارئ لهذه الرواية من الاعتراف أن الشخصية الرئيسة فيها هي الجبلاوي ثم يليه عرفة …ويحاول الكثير من المتيمين بأدب محفوظ تخطي مسألة تجسيده للذات الإلهية في شخص الجبلاوي خاصة وأن محفوظ قد صب عليه جام غضبه على ألسنة أبطال الرواية بعبارات متدنية واعتباره رمزا للدين وكأن هناك اختلافا بين الله والدين!!

لقد أضاف محفوظ للجبلاوي أوصافا لا تكون إلا لله تعالى فيذكر أنه عاش فيها (يقصد الحارة ) وحده وهي خلاء خراب وهو ما يتطابق مع ما جاء في العهد القديم في سفر التكوين : ( في البدء خلق الله السماوات والأرض ، وكانت الأرض خربة وخالية ) ويصفه في موضع آخر : (وهو يبدو بطوله وعرضه خلقا فوق الآدميين ، كأنما من كوكب هبط) . ويقول أيضا على لسان جبل: ( ولكنه بدا لي شخصا ليس كمثله أحد في حارتنا ولا في الناس جميعا ) وهو ما يتطابق مع القرآن الكريم في قوله تعالي: ” ليس كمثله شيء ” إضافة إلی أن الجبلاوي بقي للأجيال المتعاقبة ، معتزلا ومختفيا لا يراه أحد ولا يتصل بأحد إلا عبر وسطاء وخدم ، ولا يعلم الناس عنه شيئا إلا من خلال ما يروى وهو ما يتفق مع قوله تعالي:” وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم “
كما يلحق محفوظ بالجبلاوي أوصافا لا تليق بالذات الإلهية فهو لا يكترث بوصاياه المهملة ولا بسلب أمواله وأموال أحفاده فيقول على لسان عم شكرون: (يا جبلاوي يا جبلاوي حتى متى تلازم الصمت و الاختفاء. وصاياك مهملة و أموالك مضيعة أانت في الواقع تُسرق كما يسرق أحفادك يا جبلاوي.يا جبلاوي ألا تسمعني؟ ألا تدري بما حل بنا؟ لماذا عاقبت إدريس و كان خيرا ألف مرة من فتوات حارتنا؟ يا جبلاوي؟).

وهو الأب القاسي المذل لأبنائه على لسان إدريس : (ما أهون الأبوة عليك، خلقت فتوة جبارا فلم تعرف إلا أن تكون جبارًا، ونحن أبناؤك تعاملنا كما تعامل ضحاياك العديدين)..ويقول إدريس (ملعون البيت الذي لا يطمئنّ فيه إلا الجبناء، الذين يغمسون اللقمة في ذلّ الخنوع، ويعبدون مُذلّهم..). وعن غياب التسامح لدى الجبلاوي يقول في الرواية :(لماذا كان غضبك كالنار تحرق بلا رحمة؟ لماذا كانت كبرياؤك أحبّ إليك من لحمك ودمك؟ وكيف تنعم بالحياة الرغيدة وأنت تعلم أننا نداس بالأقدام كالحشرات؟ والعفو واللين والتسامح ما شأنها في بيتك الكبير أيها الجبار!).

تفسير نهاية الرواية في ضوء فكرة موت الإله عند نيتشه :
و يشير هذا المصطلح إلى التكفير عن الخطايا عبر موت المسيح وصلبه إلا أن نيتشه طرح فكرة موت الإله في اتجاه مغاير عبر كتابه (العلم المَرِح) الذي نُشِر عام 1882، حيث قال: (لقد مات الإله. ونحن الذين قتلناه). فموت الإله المسيحي، هو موت للإله الأخلاقي وأنه لا توجد قوة ميتافيزيقية (غيبية) تتحكم في الإنسان ، فالإنسان هو المسؤول عن أفعاله وهو القادر على تشكيل عالمه ومن هنا طرح فكرة الرجل الخارق أو السوبرمان ليكون بديلا للإله الميت، هذا «الرجل الخارق» سيأتي لإنقاذ العالم وسيصوغ أهدافا ثابتة و معاني قيمية وأخلاقية حياتية نابعة من عالمه الذي يعيش فيه وسيكون أكثر وعيا بمعاناة الوجود، ومستعدًا للتضحية بنفسه من أجل تقدم الإنسانية.

ربما نجد في هذه الفكرة تفسيرا للنهاية التي اختارها محفوظ ففكرة الرجل السوبرمان تتجلی في عرفة الذي يمتلك قوة السحر (العلم) والتي لا يمتلك عشرها جبل ورفاعة وقاسم ممثلو الديانات الثلاث مجتمعين مما يجعل أهل الحارة يرفعون اسمه فوق جبل ورفاعة وقاسم كما تضع الرواية قدرة السحر (العلم) في مواجهة قدرة الله فكلاهما قادر علي كل شيء وذلك بكل وضوح على لسان عرفة ثم تنتصر لقوة العلم في قول عرفة ( أن أثر السحر لا يزول ) ثم نرى انقشاع سحب المواجهة بين العلم والدين بموت الجبلاوي (الدين أو الإله) بتأثير عرفة (العلم) ثم عزم عرفة علي إعادة الجبلاوي للحياة مرة أخرى عبر (أن يحل محله ) وهو ما تحقق عبر قتله للفتوات بسلاحه السحري وهنا ينجح العلم في فترة وجيزة في تحقيق ما عجز عنه الدين وصم أذنيه عنه عبر عقود ثم تضحية السوبر مان بنفسه بعد أن أرسی القواعد الثابتة في كراسته والتي يجدها حنش لينير الطريق للآخرين الذين وجدوا في سحر عرفة الملاذ .وموت عرفة ليس موتا للعلم فالعلم سلاح مستمر بينما موت الجبلاوي هو انقضاء لعصر الدين كحل للصراعات الإنسانية.

إنها مفردات محفوظ وعوالمه الخاصة وتصوراته بعيدا عن فكرة الإيمان والكفر فأذا أردت سبر أغوار الرواية فأنت تتحسس صراعا نفسيا داخل الرجل لم يحسمه في صفحاته التي تعدت الخمسمئة صفحة بشأن أفكار ثلاث الله والإنسان والعلم والمكان هو الحارة الكون بالنسبة لمحفوظ فهو يناقش فكرة الله من منظور ظلم إلهي يراه بحق الضعفاء المتروكين فريسة لفتوات الحارة وأن العدل الإلهي لا يظهر إلا عبر مصلحين لا تستمر رسالتهم طويلا (فآفة الحارة النسيان) وينتكس المجتمع مرة أخری ومع كونهم مصلحين فهم يتعاطون الحشيش الأفيون والخمر ثم يناقش فكرة الإنسان وتنوعه بين الخير والشر وذلك عبر السجال الممتد بين الفتوات والمصلحين وأهل الحارة الضعفاء المفعول بهم دوما ثم في النهاية يرى أن العلم هو البديل للدين فهو طريق مستمر غير متقطع و بالتالي هو القادر على ترسيخ ديمومة العدل ومحاربة الظلم دون حدوث انتكاسات بينية.

ما فات محفوظ :
والحقيقة أن المسألة محسومة فالشر هو وجود أنطولوجي فكيف للإنسان أن يتذوق الخير إن لم يعرف مقابله وهو الشر وكيف نستطيع تقرير حقيقة أن الإنسان مخير دون أن يكون موضوعا بين أضداد؟ أما العلاقة بين الدين والعلم فلا تصارع فيها فالإنسان في ممارسته للدين والعلم وفي محاولته اكتشاف المجهول إنما يلبي حاجة فطرية ملحة ويدعم الوشائج التي تربطه بخالق هذا الكون .

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار