وماكان حلماً! قصة قصيرة

الجماهير- بيانكا ماضيّة

…. ثم لم أرَ نفسي إلا بينهم، أحدهم وقد طلى وجهه باللون الأبيض، جاء ووقف أمامي مبتسماً يدعوني إلى حلبة الرقص معهم، الحلبة ممتلئة بالثنائيّات، بيده اليسرى أمسك يدي اليمنى، فيما يده اليمنى ضمّتني، وراح يراقصني بخطوات غير متناسقة مع خطواتي، قلت له:
-توقّف، أنت لاترقص وفق الإيقاع الموسيقي!
ثم لم أجد نفسي إلا وقد أخذتني الرشاقة، وكأني قد تدرّبت مراراً على هذه الرقصة، فبدأت آخذه يميناً ويساراً وفق الإيقاع..ضحك ملء قلبه، وقال:
-مارأيك أن تنضمّي إلينا؟! أجبته: جئت بمهمة توثيق عملكم هذا، وسأراقبكم لأدوّن كل حركاتكم.
كان المكان يعبق بالبهجة والسرور، شبان وشابات يرتدون الألبسة الاستعراضية، الألوان والحركات والأصوات تملأ المكان، لم أعرف إن كنا على خشبة مسرح، أم في حلبة رقص، أم في مكان ما من هذا العالم … ثم لم أجد نفسي إلا بين فتيات كثيرات في مكان أشبه بدار عربيّة، وقد توزعت الفتيات في أرجاء باحتها، إحداهن جلست فوق غصن شجرة، وأخرى اتخذت الدرج ركناً لها، وثالثة أمسكتني من يدي وراحت تجرّني خلفها لتريني إتقان عملهن، كانت الخفّة والرشاقة تملأ أرواحهن، كلّ واحدة منهن تقوم بأداء مشهد ما، وكأنهن يتدرّبن على عمل مسرحي، الأصوات تتداخل، الحركات والضحكات والألوان تملأ المكان.. كنت أتابع هذا التدريب المسرحي المتقن وأنتظر النهاية.
ثم لم أجد إلا شخصاً يقف أمامي، يبدو وكأنه مخرج العمل، أخبرته بأن صور هذا العمل كلها في حوزتي، وأريته بعضها، كان المجلد الذي يحتوي تلك الصور كبيراً وضخماً، بدا وكأنه مجلد أرشيفي للصحف، وطلب مني ألا أنشر شيئاً قبل العرض، فأجبته: بالتأكيد!.
ثم لم أجد نفسي إلا وأستعرض صور هذا المجلد، لم تكن صور العرض وحدها تملأ صفحاته، إذ راحت تتوالى تحت ناظري صور من التاريخ السوري، أغلقت المجلد، ورحت أتابع الحركات في هذا المكان..
ولم أرَ إلا تلك الفتاة التي كانت تجلس على غصن الشجرة، وقد راحت تشرب السمّ من خاتمها وتطلق صيحة مدوّية في المكان كزنوبيا (بيدي لابيد عمرو)، اقشعر جسدي وأنا أسمع صيحتها تلك، أدهشني المشهد وقوّة أدائه، فيما كانت الفتيات الأخريات يملأن المكان بجملهن متعددة المعاني، والتي كانت جميعها تتناهى إلى سمعي بقوة.
ثم وبسرعة البرق وبخفّة لامثيل لها، نزلت تلك الفتاة إلى أسفل الشجرة، وصوتها يرن في المكان كلّه وهي تصيح بملء فيها: (جاء الشهييييييد)! وتحوّلت ألوان ثياب الممثلات إلى اللون الأسود، وخرجن من هذه الدار نحو الخارج زرافات ووحدانا، وخرجت معهن لأرى من يكون الشهيد!.
كانت الجنازة آتية من البعيد، البعيد الذي يوحي بمشهد ضبابي لاوضوح فيه، تابوت الشهيد على أكتاف الرجال، الرجال كثيرون كثيرون، لم أعرف إن كان الشهيد من العراق أم من سورية أم من لبنان أم من فلسطين، العويل والبكاء والنواح والزغاريد ملأت هذا الفضاء، الفتيات اللواتي كن يرقصن ويمثّلن ويلهون رحن في بكاء مرير، ولم أجد نفسي إلا وأبكي بحرقة معهن، ولم أعد أعرف إن كانت الجنازة ضمن مشاهد ذاك العمل المسرحي، أم كانت حقيقة واقعة، كانت الدموع تتساقط مدراراً على الخدود، على الأجساد، على الأرض، حتى امتلأت تلك الأرض باللآلئ والدم الذي سال بعيداً إلى أن وصل إلى صفحات ذاك المجلد، ووسط السواد المتشحة به تلك الفتيات، والذي يملأ المشهد كله، كان هناك لون آخر يظهر من وسطهن، لاحت لي هيئة ذاك الذي طلى وجهه باللون الأبيض، لكنّ وجهه هذه المرة مطليّ بالأحمر، أمسك بفتاة من الفتيات وراح يراقصها، كانت رقصته تنمّ عن رشاقة ولياقة ودربة، ولم أرَ إلا وقد سقطت تلك الفتاة على الأرض، وبأداء تمثيلي باهر، وفي وضع نصف متكوّر وبخفّة أزاحت رداءها الأسود عن جسدها، ومدّت يدها إلى ساقها ثم صعوداً وبسرعة لتلامس أجزاء من جسدها إلى أن أصبح الجسد كله يختلج ويهتز ويرتجف!!!.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار