•د عبد الحميد ديوان
إن طبيعة الاستشراف عند الانسان لا تتحقق لأيٍّ كان لأنها صفة تنطبع في ذاكرة المبدعين الذين يتخطون الواقع ليحلقوا في عالم من الاستشراف يستمدونها من خلال معطيات الواقع , فترتد عندهم صوراً استشرافية تنبئ بما يمكن أن يحصل في المستقبل قريباً كان أم بعيداً .
وقد طبع الاستشراف بصمته عند كثير من الأدباء الذين يمتلكون حسّ هذا الاستشراف في الشرق والغرب .
وفي قراءتنا هذه سنؤشر لنماذجَ من هذا الاستشراف تحققت نبوآتهم بعد فترة من الزمن .
فهذا الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي يتنبأ في قصيدة له بما حلّ بالوطن العربي وبسورية خاصةً من مآسٍ سببها الهجمات الاستعمارية على بلادنا وما حل فيها من خراب على يد المتآمرين . فيقول :
وإذا القضاء رمى البلاد ببؤسه
جفّ السحاب وجفّ منه المنهل
وقع الذي كنا نخاف وقوعه
فعلى المنازلِ وحشةٌ لا ترحل
أمسى الدخيل كأنه ربُّ الحِمى
وابن البلاد كأنه مُتَطفّل
هامت على الأشلاء في ساحاتها
ِفرقاً تعلُ من الدمار وتنهل
لهفي على الآباء كيف تطوحوا
لهفي على الشبان كيف يجندلوا
إن أبك سوريا فقلبي كم بكى
أعشى منازل قومه والأخطل
وننتهي إلى شاعر عربي من فلسطين هو الشاعر محمود على السعيد الذي كان إبداعه منذ يفاعته علامة على نبوغه الشعري، هو الذي جعله يمتلك ناصية الاستشراف والتنبؤ منذ شبابه الأول فنرى في قصيدة له كتبها في الستينات من القرن الماضي ونشرها في مجلة الآداب استشرافاً عبقرياً ونبوءة تحققت بعد زمن على يد المقـ.ـاومة الفلسطينية في الثمانينات تلك هي الانتفاضة العظيمة التي قام بها شعبنا الباسل في فلسطين , فكانت هذه القصيدة علامة مضيئة في تاريخ شاعرنا .
لقد أعطتنا هذه القصيدة صورة متألقة لإبداع هذا الشاعر ورؤيته الذكية واللّمّاحة مستنبطاً من أحداث فلسطين ما يمكن أن يحصل على أرضها من بطولات عظيمة نسجها شعبنا الفلسطيني على الأرض وصورها شاعرنا قبل أن تبدأ بسنوات طويلة .
إنها عبقرية شاعر جعلته رؤيته النافذة وإدراكه الذكي لما سيقوم به هذا الشعب المقاوم . يقول في تلك القصيدة , التي عنونها بـ ( جبل النار ) (وهي مدينة نابلس الفلسطينية):
يا جبل النار –يا أخصب رحم في الدنيا
تلد الثوار — أحجارك جمر مجنون
فجرها شلال عواصف
أنهار دماء – يا جبل النار – – يا رجلاً لا يرضى العار
أغضب – – أغضب
وفي الحقيقة فإن استشراف محمود علي السعيد لم يقف عند هذه الانتفاضة بل إننا نرى في قصصه التي نسجها في السبعينات استشرافاً آخر تجد في قصة ( السجين ) التي تنبأ فيها بهروب المساجين الفلسطينيين من سجون الصهاينة كما حدث مع السجناء الستة والتي أشار إليها الناقد أحمد علي هلال في مقالة له في صحيفة الوسط الفلسطيني .
إن مسألة الاستشراف والتنبؤ في الأدب أثبتت حضورها منذ القديم وهي حالة مستمرة مع كل أديب مبدع مخلص لأدبه التي يجعله يتحد مع ذاته فيرى في مجتمعه ووسطه ما لا يراه عامة الناس .