بقلم الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
لقد أرسى الخالق العظيم قواعد التعامل مع الآخر فجعلها سائرة في دروب الإحسان مهما كان حال ذلك الآخر وتصرفاته فهو لم يأمر بمحاكاة التصرفات، ولم يأمر بالتعامل بالمثل أبداً إلا في إطار العقوبات الشرعية الخاصة بالجنايات والاعتداء على الغير، أما فيما يتعلق بفقه الحياة فقد طلب من أتباعه دوام الإحسان للآخرين ومما يؤكد ذلك ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تكونوا إمعة ، تقولون : إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا ). أخرجه الترمذي.
وفي استعراضٍ سريع لبعض العلاقات الإنسانية التي نظمها الإسلام نستطيع أن نقف على حقيقة الإحسان في كُنه سائر العلاقات ومحورها الأساس من ذلك ما يتعلق بتعامل الآباء والأبناء نقرأ قوله تعالى:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان :14 ، 15]. فالأمر الإلهي للأبناء بدوام الإحسان للآباء وإن كانت تصرفاتهم خلاف الإحسان، وكذلك الحال بالنسبة لتعامل الآباء مع أبنائهم فقد قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله والداً أعان ولده على برِّه ) رواه أبو الشيخ ابن حبان. حيث ترشد هذه النصوص كلا الطرفين لنهج الإحسان مع الآخر مهما كانت تصرفات ذلك الآخر.
وفيما يخص تعامل الزوجين مع بعضهما نجد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يقول للرجال:( النساء شقائق الرجال ما أكرمهن إلا كريم وما أهانهنّ إلا لئيم ) رواه الترمذي.
ففي أمره للرجل بالإحسان إلى الزوجة لم يضع شرطاً لذلك الإحسان؛ فلم يقل إن كانت المرأة محسنة فهي تستحق الإحسان وإن كانت مسيئة فهي تستحق الإساءة لم يقل ذلك بل جعل التعامل معها دائماً بإحسان معهما كانت أخلاقها وتصرفاتها. وكذلك الحال بالنسبة للرجل فقد أمر زوجته بتمام احترامه وتقديره مهما كان حاله وبغض النظر عن تصرفاته، لقد جعل الإحسان مسار التعامل ومنهجه الأساس.
ونلمس هذا النهج في التعاطي مع ذوي القربى فقد ورد أنه جاء رجلاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي قرابة أصلهم ويقطعون ، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، قال: لئن كنت كما تقول، فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك).أخرجه أحمد.
فرغم أن ذلك الرجل شكا حال قرابته السيئة رغم إحسانه لهم نلحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لفته إلى عظيم التأييد والأجر من الله تعالى ولم يأمره بالتعامل بالمثل أبداً.
وكذلك نجد هذا النهج ملحوظ في قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يوقر الكبير ويرحم الصغير). رواه أحمد. فهو يأمر الكبار بالإحسان للصغار ويأمر الصغار بتوقير الكبار.
وهكذا كلما وقفنا أمام علاقة بين طرفين سنجد الأمر بالإحسان لكل منهما بغض النظر عن أعمال الآخر، الغني والفقير، القوي والضعيف، الراعي والرعية.
عندما خلق الله تعالى المخلوقات جعل تمامها وانسجامها وكمالها فعل الإحسان فكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) رواه مسلم. وطالب بالإحسان في شرائع سائر الأديان لتستمر عجلة الحياة بالدوران وقد رافقتها مسوح الإحسان وتجليات المعروف وقبسات الخير.
قال الشاعر الجاهلي بشر الفزاري منذ قرون:
قد رَأَيْنا مِنْ فُرُوعٍ كَثِيرةٍ….
تَمُوتُ إذا لَمْ تُحْيِهِنَّ أُصُولُ
ولَمْ أَر كالمَعْرُوفِ، أمَّا مَذاقُهُ….
فَحُلْوٌ، وأما وجْهُهُ فَجَمِيلُ
فلنسعَ لإرساء فقه التعامل مع الآخر بين الناس؛ لنسعَ إلى تجميل أفعالنا بالإحسان مع سائر بني الإنسان لنُسهم في بناء وطنٍ آمن في هذه الأزمان.