ليلى أورفه لي
معاً نهبط الدرج. وكعادتِه كان يصفّر لحن أغنية ليعرف الجيران أنه على الدرج، الظلمة تكتنف كل شيء، لا يستطيع المرء رؤية يده في هذا الظلام الحالك، أخرجت من جيب معطفي ولّاعة سجائر صينية، لها بطارية صغيرة، لأستضيئ بضوئها، وأرى مكانَ خطواتي؛ بضعُ درجاتٍ ووقعت الولّاعة من يدي وانكسرت. غرقنا مجدداً في الظلمة، طلبت منه الانتباه لخطواته..ضحك قائلا: هل نسيت من أنا؟ وتابع هبوط الدرج، وقفت حائرة كيف سأتابع هبوط الدرج؟ قلت له: انتظرني، فأنا لا أتبين خطواتي في الظلام. توقف وقال ماداً ذراعه الناقصةَ الكفّ: تعالي وتأبطي ذراعي، ولنعكس المتعارفِ عليه ودعي الأعمى يقودُك، بحذرٍ تأبّطت ذراعَه نزلنا بضعُ درجات، ثم أحسست بخطواته الواثقة … تشجّعت … تشبّثت به … أنهينا هبوط الدرج وقفنا أمام مدخل العمارة، وكان المطر قد توقف عن الهطول بعد انهماره بغزارة.. الكهرباء مقطوعة والظلام يلفّ المدينة. استنجدت بالضوء المنبعث من بعض المحلاّت التي لمّا تغلق بعد، وقد استخدم أصحابها مولّدات للكهرباء، أطلتُ الوقوف، شعر بقلقي، فكيف سأقود خطواتِه في الشارع، ومقصدنا كان محل “كبّة ستّي” في شارع النيّال، قال: المكان الذي سنذهب إليه يبعد حارتين عن هنا ، لنتجه إلى الشارع الرئيس ثم ننعطف يساراً ، وقولي لي فقط متى نهبط عن الرصيف ومتى نصعد إليه… صامتة بحذر تأبطت ذراعه …ومشينا… بالكاد استطعت استبيان موضع خطواتنا، كان يسألني عن أحداث المسرحية التي أقوم بكتابتها محاولاً بذلك جعلي أتخلى عن توتري الذي يشعر به من طريقة تشبثي بذراعه، قبل أن ننزل أحد الأرصفة، قال لي: انتبهي هنا يوجد حفرة، ومن المؤكد أنها امتلأت بالماء. أمعنت النظر، كان محقاً، ضحكت بصوت مرتفع ولم أقل شيئاً. اعتلينا الرصيف الثاني، مشينا في منتصف الرصيف تقريباً توقف فجأة، سألته: لماذا توقفت؟ أجابني: لقد وصلنا، كان المحل مضاءً بالشموع فلم استطع تمييزه، ضحكت بصوت مرتفع ساخرة من نفسي، دخلنا المحل، استقبلنا صاحبه بالترحاب والتهليل: “أهلين بأحلى جار، طلبك جاهز أستاذ، أطيب كبة مشوية لابن حلب الأصيل سمير طحّان جار الهنا والرضا” … أخذ حاجته وطلب منّي تعليق الكيس على ساعده الآخر رافضاً أن أحملَه عنه، شكره وخرجنا وهو يقول له: ” نشالله مأكول الهنا والعافية سلملي على أبو عارف” .
تأبطت ذراعه وعدنا أدراجنا إلى البيت، وقد صارت خطواتي أكثر وثوقاً وبدأت استمتع بالمطر الذي عاد يهطل رذاذاً ناعماً قلت له: أحببت هذا المشوار القصير معك، فتوقف عند ناصية الشارع قبل أن نهبط الرصيف، وحدثّني عن “المعرّي” حين ذهب إلى بغداد، واصطدم رأسه بغصن شجرة في مكان ما من الطريق، وعندما عاد إلى بغداد مرة ثانية، ومرّ من نفس الطريق أخفض رأسه عند الموضع ذاته كيلا يصطدم رأسه ثانية، فأخبروه أن الشجرة قد قلّمت أغصانها وصارت أطول، ضحكت من قلبي قائلة: العظماء يتشابهون. أجابني مصححاً: بل ذاكرة العميان وحساسيتهم بالمكان عالية جداً. وهممت باستئناف المسير عندما بدأ بالانعطاف يميناً توقفت وسألته: لماذا تنعطف هنا؟ ضحك وقال: لقد وصلنا إلى حارتنا… ضحكت ثالثة لأني اعتقدت أننا سننعطف في الشارع التالي، فقد كنت حقاً مشوشة وغير قادرة على الرؤية بوضوح بسبب العتمة، وأيضاً لخوفي من سقوط قذيفة، فنحن في منطقة تعتبر تقريباً خط تماس.
عند مدخل العمارة ودّعني قائلاً: سأصعد وحدي ثم أردف، أظن أنه يوجد في جيب معطفي ولاّعة سجائر صينية صغيرة ابحثي عنها وخذيها لتتمكني من متابعة الطريقوحدك…ضحكت وسألته: من منّا الأعمى ؟!! أجابني ضاحكاً: أنا أعرف من أنا وهذا يكفيني…
على ضوء بطاريته الصغيرة تابعت سيري إلى البيت مبتسمة، ولأول مرة متمهلة ومنتبهة لصوت رذاذ المطر أكثر من صوت القذائف البعيدة ،ومستمتعة بأننا مازلنا نضحك… وبدأتُ حديثاً طويلاً مع نفسي عمن هو الأعمى.