الجماهير / بيانكا ماضيّة
سيبدأ الأمر بكذبة، وفي ليلة لا ضوء قمر فيها ستجدين نفسك نازحة عن بيتك، ستحملين ماخفّ وزنه وغلا ثمنه، أشياءك الأكثر أهمية لك.. ستجدين نفسك في مدينة أخرى، في شارع لاتعرفينه، في بيت لايمت لك بصلة.. ستتذكرين كل ركن في بيتك، كل قطعة فيه، لن تغادره روحك، ستبقى متشبثة به.. بيتك ذاك سيتهدم بفعل قذيفة، ستتطاير أشلاؤه في الهواء، كأنك لم تضعي فيه حجراً على حجر.. لاتنظري إليّ هكذا.. أعلم أنك لن تصدّقي ما أقوله لك لكن هذه الأمور ستحصل..
ستشاهدين أموراً لم تريها في حياتك قط.. كل شيء سيتغير، سينعدم الأمان، وسيتغلغل الخوف في أجزاء جسدك، جارتك التي تحبينها ستقتلها قذيفة وهي تمرّ في أحد الشوارع..ابن أخيك الشاب سيقتله قنّاص فيما هو ذاهب إلى جامعته.. رفاقه وأصدقاؤه في الدفعة نفسها ستخترق قذيفة القاعة التي يرتادونها للدراسة وستجعل كل قطعة من أجسادهم في ركن..
سيقتل أبناؤك أمام عينيك وستسبحين في بحر دمائهم..وستقتربين من حدّ الجنون.. أو ربما حينها ستجنين حتماً.. لا أستطيع إلا أن أخبرك بهذا.. فهذا ماتقوله خطوط كفّك.
سيتجه الرعاع والمرتزقة من كل حدب وصوب نحو بلادك، لينشروا ماسيسمونه الدولة الإسلامية للعراق والشام (داعش).. وستسمعين جملة ستدوّي في كل الأرجاء.. جملة سيقولها أحد الجنود السوريين الذين سيستشهدون دفاعاً عن طهر التراب: (داعش والله لنمحيها) هذا القسم سيقسمه الكثيرون من بعده، ليس الجنود فقط بل والمدنيون..
ستعودين بذاكرتك إلى كل ابتسامة وكل ضحكة خرجت ملء فيك..ستتمنين العودة إلى زمن مضى..ستتمنين ألا يكون هناك زمن..وأن تمحى هذه الفترة من حياتك وحياة بلادك كلها.. ستصبح ابتسامتك مرسومة لا حياة فيها.. فالنواح والبكاء حولك يملأ الأمكنة.. ستصمدين كما لم يصمد أحد.. وستخالين أنك تعيشين كابوساً تودين الانعتاق منه.. قد تعيشين لأيام تخالين فيها أنك تعيشين حياة طبيعية.. إنها حياة مقاومة دون أن تدركي ذلك…. وهي محطة انتظار..
ستفكرين بأجدادك وأجداد أجدادك.. مشانق واغتصاب وذبح وقتل وسحل في الشوارع.. هكذا حصل في الزمن الغابر.. وسيحصل أيضاً في بلادك..
في ليلة ظلماء ستُحاصرون ولن تجدوا سوى العشب لتأكلوه، سترين أمام عينيك طفلة صغيرة يذبح أهلها على مرأى منها.. سيقيدونها من يديها ورجليها، وفرداً إثر آخر من عائلتها سيسيل دمه أمامها.. صراخها سيبقى طنيناً يصمّ أذنيك..وستبقين عدة ليال دون أن يغمض لك جفن.. ولكنك في نهاية المطاف ستكتشفين لغة عجز البعض عن إدراكها..
* * *
فعلاً بدأ الأمر بفعل قاس تبين فيما بعد أنه كذبة.. لم نرَ آثاراً لذلك الفعل رغم أنهم صدعوا رؤوسنا بأفعال أخرى ألصقت بالجيش وبرجال الأمن والشرطة.. ولقد أظهروها في وسائل الإعلام المشاركة بالمؤامرة على أنها من فعل أيديهم.. تواترت أحداث قنص وقتل في أثناء المظاهرات التي خرجت في الشوارع والتي نادت بالحرية، بالجنون.. كان الناس قد تفرّقوا مابين مصدّق باصم بالعشرة وكأنه رأى الأحداث بأم عينه، وبين مشكك وغير مقتنع تماماً؛ لأنه يعلم أن ثمة خطة قد كُتبت، وأنه لمن المستحيل أن يقوم المدافعون عن البلاد بهذه الأمور المشينة أو بهذه الجرائم النكراء..
كانت كلمات العرافة التي رأيتها مصادفة في أحد الأرياف تتردد كصدى في ذهني، وكنت أتساءل دوماً: هل سيحصل كل ما قالته لي؟! لقد تحققت البداية/ الكذبة، وبتّ أخشى أن أرى نفسي لاحقاً راحلة عن مدينتي، عن بيتي، عن أصدقائي، وأن يتحقق بقية كلامها.. كنت أرتجف وأنا أتذكر تلك الكلمات، الخنجر، ومذاك الحين وأنا أشبع نفسي بمن حولي، وبما حولي، كأني راحلةٌ غداً.
مضت سنوات وأنا مازلت قابعة في بيتي.. لكن علاقتي مع كل ماذكرتْه العرافة تغيّرت، أصبحت أقوى وأكثر ترابطاً.. علاقتي مع جارتي تغيّرت، صرت لا أدع نهاراً يمر دون رؤيتها، علاقتي مع ابن أخي تغيّرت هي الأخرى، صرت أهاتفه دوماً لأسأل عن أحواله وعن دراسته، وعلاقتي مع أصدقائه ورفاقه الذين لا أعرفهم قد بدأت، صرت أطلب منه أن يعرفني إليهم كلهم كلما سنحت له الفرصة بذلك..وصرت أعرفهم جميعهم، وقد أصبحوا هم الآخرون أبناء أخي.. حتى علاقتي ببيتي قد تغيرت فقد تعلّقت بكل ركن فيه ولم أكن لأغادره، فإن تحققت نبوءة العرافة بسقوط قذيفة عليه تجعل أشلاءه في الهواء، فيجب أن تكون أشلائي معه، لم أغادره، ولن أغادره..
أما علاقتي بأبنائي فهي وطيدة، ولكني بتّ قلقة عليهم أكثر، ولا أريد تذكّر ماقالت العرافة بشأنهم.
* * *
حين كتبتُ المقطع الأول من القصة نشرته فوراً على صفحتي في موقع التواصل الاجتماعي، ولم يكن في ذهني تلك الآلية التي سأكمل بها تفاصيل القصة. كان يبدو حين نشرت المقطع أنها قصة كُتبت كاملة، ولكني في الحقيقة لم أكن قد كتبت سوى ذاك الجزء من القصة، وقد وضعت عنوانها بدون تفكير (العرّافة) فليس هناك سوى هذا العنوان الذي يمكن أن يدللني على الملف الذي سأحفظها به في جهاز الحاسوب خاصتي.. وجاءت التعليقات من أصدقائي في موقع التواصل تباعاً، فقد كتبت صديقتي الأديبة: “إنها الحرب المشوهة التي دمرت كل شيء وقتلت وخربت لكن الحق لايموت مهما تغير الزمن”.. وصديق كاتب آخر كتب: “صدق العرافون ولو كذبوا، أتمنى من عرافتك الرأفة بالمستقبل قليلاً لأن الناس أصبحت تخاف منه وتتمنى لو يتحنط الزمن”…..وصديق آخر كتب: “أسقطي حروفك وزيّني لوحتك الجميلة بعلم العرافة واسترسلي بأجمل اللوحات ونحن بانتظار النهاية المفرحة والتي ينتصر فيها الخير على الشر”.. أما صديقي الكاتب والناقد فقد كتب: “رائعةً، كلمةٌ تبخس النص حقه. سأظل أبحث عن كلمة أخرى تليق بهذا المقطع التراجيدي. سأدعوك من الآن (زرقاء حلب) فأنت حفيدة زرقاء اليمامة التي تنبّأت لقومها بالبوار فلم يصدقوها، لكنني أعتقد أن من نظرتِ لها في فنجانها قد صدّقت كل حرفٍ قلتِه لأنها عاشته”.. فيما كتب صديق آخر: “طوبى لكلماتك وهي تقينا أهوال القذائف والرصاص وتنقلنا إلى أول حياة نصادفها على درب الآلام!”. وصديقتي الشاعرة والقاصة كتبت: “قصة موجعة كالواقع تماماً، سدرة منتهاها في (عنوانها) الذي يكشف من هو/هي المتحدث ويرصد وقائع مستقبلية”.. وعلق صديق آخر: “آآآآآخ.. صدقت”. وأحد الدكاترة المختصين كتب: “فال الله ولا فالك في هذه القصة”..فيما كتب جندي محارب: “هذه العرافة قرأت خطوط اليد كقراءة قائد لتفاصيل معركة أرغمنا على خوضها فأحببنا خوض غمارها ليس لعشقنا للحروب، ولكن لقناعتنا بأن أمجاد أوطاننا لا تكتب إلا بدماء الأبطال والشرفاء، فأهلا وسهلا بحرب نحن المنتصرون فيها مهما طالت ومهما تآمر وتحالف أعداؤنا فنحن الأقوى والأكثر إيماناً بأننا سوريون بامتياز، وأننا سنورث أبناءنا المجد الذي ورثناه عن آبائنا”.
إلا أن الرسالة الوحيدة التي جاءتني عبر الدردشة الخاصة تعليقاً على ذاك المقطع قد كانت من أختي إذ قالت فيها: لم تعجبني قصتك هذه.. صحيح أن أحداثها قد حصلت فعلاً، لكنها جعلت قلبي يسقط كما جعلتني أكتئب.. لعن الله هذه العرّافة الشريرة! ضحكتُ وأنا أفكر ببقيّة القصة.
تابعت كتابة الجزء الأول وبدأته بمقطع (سيتجه الرعاع والمرتزقة من كل حدب وصوب نحو بلادك) إذ لابد من الإشارة إلى (داعش) هذه التي تشغل العالم اليوم بأفعالها الإجراميّة، وتذبحه من الوريد إلى الوريد، ولابد من أن يكون كلام العرافة من صلب الواقع.. ثم تابعت القصة بكتابة الجزء الثاني ذاك الذي جاء على لسان المرأة، الجزء الذي جعلت علاقتها بجارتها وبابن أخيها وأصدقائه فيه تتغير. وهنا كنت قد بدأت بتغيير الأحداث، فالمرأة لم تعد تحب جارتها وحسب وإنما أصبحت كأخت لها.. هنا كنت قد غيّرت ما كانت قد قرّته العرافة، ليس تجسيداً لمقولة (كذب المنجمون ولو صدقوا) وإنما لأجل أمر آخر.
جلّ ماكنت أفكر فيه أنه لابدّ من نسف كلام العرافة كلّه صحيح أن ماقالته هو الواقع عينه، لكن في القصة يجب ألا يكون! يجب أن أجعل العرافة أكبر كاذبة في التاريخ، مثلما كانت الأحداث قد بدأت بأكبر كذبة في هذا التاريخ.
ثم تابعت كتابة ماقالته العرافة إلى أن توقفت عند جملة (ولكنك في نهاية المطاف ستكتشفين لغة عجز البعض عن إدراكها) وأنا في الحقيقة لا أعرف بعد أية لغة ستكتشفها تلك المرأة التي تقرأ العرافةُ كفَّها. وخطرت على بالي رواية (الخيميائي) لباولو كويلو فرحت أعيد قراءتها للمرة الثالثة وانتهيت منها وأنا بالكاد أمسك بتلابيب تلك اللغة التي ذكرتها العرافة، وقلت في نفسي لابد من قراءة رواية أخرى لكويلو قبل متابعة القصة، وفيما كنت أبحث في الملف الذي نسخه لي أحد الأصدقاء والذي يحتوي روايات كويلو أغلبها توقفت عند رواية (الزَّهير) ولا أعرف لم هذه الرواية بحد ذاتها جعلتني أتوقف عندها رغم وجود عناوين جاذبة غيرها. رحت أقرؤها، وانتفضت اللغة مرة أخرى من داخل هذه الرواية كأنها تطلب مني أن تكون هي المقصودة في قصتي أو في كلام العرافة. ولكن سيكون هذا اجتراراً وتكراراً لأفكار ومعان سبقني إليها كويلو، هذا ماحدثت نفسي به، ولكن لابأس.. لابد من المضي في الكتابة حتى أرى إلى أين ستوصلني الدرب. ورحت أفكر في الطريقة التي سأقضي بها على كلام العرافة، يجب أن يكون كلامها منفياً نفياً قاطعاً.. ولكن كيف؟!
* * *
الأحداث المريبة القاهرة التي ذكرتها العرافة حصلت حقيقة، حين كانت كفّي بيدها كنت أنظر إلى عينيها وإلى ذلك الشرر المتطاير منهما، لم أكن أريد أن تقرأ كفّي إذ كثيرون أكدوا لي أن كلماتها لا تجلب سوى الخراب والدمار.. وكم تمنى الكثيرون ألا تقرأ كفّ أحد، وماكانوا يشبهونها إلا بالبوم.. نعم كل ماذكرته حصل، لكن كل ماخصّته بي من تلك الأحداث لم يحصل -والحمد لله- إذ لم تكن هناك قذيفة قد طالت جارتي، وابن أخي مازال يذهب إلى جامعته ورفاقه كذلك، لكن الأمان انعدم حقاً وجاءت (داعش)..وجملة (داعش والله لنمحيها) قد قالها فعلاً أحد الجنود قبيل ذبحه من قبل (داعش)، وأصبح العالم كله يرددها من بعده.
كنت كلما خلوت بنفسي تمنيت أن يعود الزمن بنا كيلا نسمع أو نرى ما قد رأيناه وعشناه. لقد أصبحت حياتنا أشبه بالموت، والموت أصبح مجانياً وعبثيّاً، والعويل والنواح تسمعهما في كل مكان، والشهداء أصبحوا ملح الأرض، ولابد وأنت تعيش كل هذه المآسي من أن تتذكر مافعله أعداء البشر عبر التاريخ ولاسيما مافعله العثمانيون منذ قرون خلت، في حرب السفر برلك وغيرها.. ولابد من أن تتذكر ما كان يقوله لك أجدادك عن تلك الحقبة وعن تلك المجازر التي قام بها العثمانيون بحق الأعراق والمذاهب..
في أيام خلت سمعت بل رأيت صورة تلك الطفلة التي قيدتها (داعش) وراحت تذبح جميع أهلها أمام عينيها. لا أعرف لمَ بقيت صورة تلك الطفلة في مخيلتي إلى اليوم.. إنها حقاً مجازر تحصل ضد الإنسانية وضد مشيئة الله.
في كل حدث من تلك الأحداث كنت أتذكّر العرافة، وذات يوم اتصلت بصديقتي التي كانت ترافقني حين رأيناها في القرية، كانت صديقتي تلك قد نزحت من مدينتها نحو مدينة أخرى بسبب القذائف التي تطلقها جبهة النصرة وداعش على الآمنين في المدن، سألتها عن أحوالها وعن عائلتها فعلمت أنهم بخير، ثم أردفت كلامي بسؤالي عن تلك العرافة، فقالت صديقتي وفي صوتها نبرة غريبة:
في ليلة ظلماء حوصرت قريتها من قبل (داعش) ولم يعد يجد أهل القرية سوى العشب ليأكلوه، وحين علمت (داعش) بأمر العرّافة أصدرت حكماً بحقّها، فبما أنّ قراءة الكف والتنجيم حرام في شرع الله إذ لا يعلم الغيب إلا الله، وبما أن التنجيم هو التشبّه بالله، فقد حكموا عليها بأن يقتل أبناؤها أمام عينيها، فلربما قد تعلموا التنجيم منها، ومن ثم حكموا عليها بالاغتصاب من قبل أفراد مجموعة داعش كلها ومن ثم القتل. لقد قيل لي بأن صراخها وهم يقتلون أبناءها قد هزّ أرجاء القرية، وأنه بقي طنيناً يصمّ آذان أهل القرية لليال عديدة. وقيل لي بأنها حين رأت أبناءها يُذبحون ألقت بنفسها في بحر دمائهم وهي أشبه بمن فقد عقله.. وإنها بعد أن اغتصبوها رؤوها قد جُنّت حقاً، ولكنهم لم يقتلوها، لكي يراها أهل القرية وغيرهم من القرى المجاورة فتكون عبرة لمن اعتبر، وقيل لي إنها اليوم تهيم على وجهها في البراري والسهول وصرختها تدوّي في أرجاء القرى والبلدان كلها.