بيانكا ماضيّة
وأعود إلى كتاباتي في بداية الحرب، إلى الصفحة المهكّرة التي نثرت فيها حروفي عبر سلسلة نثريّة بعنوان (خارج النافذة):
على أنغام نسائم بحريّة كنت ترتشفين قهوتك… والصباحات في بلادك اشتباكٌ بين طرفين.. بين أرض وهبت خصوبتها لحظة حب وبين عشاق منتظرين على الأبواب.. وأبواب المدن وحيٌ سماوي.. وهمسٌ بينها يتساءل: متى اللقاء المبين؟!
تركتِ مدينتك على أمل عودة فتقطعت بينك وبينها الطرقات.. ورصاص القنص يخترق المفارق.. وليس إلا فضاء وحيد يحملك إليها.. فضاء الغيوم المعبأة بالمطر.. وابتعدت المدينة عنك ابتعاد طير هجر وطنه.. لن يحمله إليه إلا عودة ربيع لايشبه أي ربيع مضى..
ترتشفين قهوتك وتنظرين.. في المدى البعيد عن النافذة جبال فرش الله عليها بساطه الملون.. وبنظرة سريعة نحو الشارع تجدين أناساً يتغلغل بينهم شبلٌ لون لباسه بلون الجبال.. هذا اللون صار عنوان بلادك..
لحظات ويبدأ الرصاص الصباحيّ.. شهيد كعادة الصباح المطلّ.. لم يعد يخلو صباح المدن من زغردة البنادق.. فرسان سقطوا في غير مدينة وعادوا إلى ساحل أحلامهم.. كأن البحر منذ عامين ونيّف ماعاد يستقبل على شواطئه إلا زوارق الرجال العائدين بعد اشتياق.. ووجع يرسل أنينه عبر كل المدن: كفى يا إله الحرب..
ليس سوى موقع التواصل وسيلة للنسيان.. ولكن أنى للذاكرة أن تنسى؟! هاهي مشاهد الخراب في مدينتك تطلّ عبر هذا الموقع وأنتِ من يبتغي نسياناً لكل مايشوّه الذاكرة.. كأن المدينة رسمٌ بلون الرصاص.. وبفعل الرصاص آلت إلى مدينة كأن الزلزال مرّ بها يوماً.. فقلب عاليها واطيها.. وأبقى الهيكل والمحراب..
وهاهي معلولا صوت الجرح الغائر في عمقه.. أيقونة لغة مقدّسة تسربت منذ آلاف اللغات… ونقشت صلبانها بين الصخر وشقوقه.. بين الماء ونبعه.. معلولا حيث سار عشّاق المسيح ونثروا حروف الإنجيل من فوق الجبال.. و”فجٌ” معجزة الإله في طبيعته… وماء بارد بين جبلين يمرّ في طريق ضيقة.. دهر من الصلوات مرّ من هنا… وفي الصخر مغارات راحت تصرخ في روح الآيات: أبانا الذي في السموات.. شوّهوا اسمَك حين تفجير ورصاص!