بقـــايـــا نـــاس

بقلم عبد الخالق قلعه جي

لا أعرف لماذا كلما كنت أحاول أن أبحر مع حرفي الأول في الكتابة عنه، كانت مويجاته الملونة تسير بي الهوينى حيناً، لتحملني عاتياتها وتعيدني شواطئ البدء أحاييناً أخرى .
ربما لأنه كما اللغز ، تحتاج اكتشاف خرائطه السرية والسراديب، لتصل إلى مفاتيحه، وربما لأن عوالمه تغوص بعيداً في الفكر والفن والثقافة والفلسفة والعلوم .وكأني بعذوبة ابتسامته تقول دعك من ربما وربما فأنت مع وليد إخلاصي.
يقدس الخبز والقمح، دون أن يغفل أن قيمة الرغيف، تدين لمادة الخميرة كما هم الناس خميرة المجتمع وسر من أسرار استمرار الحياة.
كثيراً يتحدث عن حلب، الرحم الذي عاش فيه ..عن جماليات الأمكنة .. عن الزخارف وموسيقا الحجر، وعن الارتباط العضوي بتفاصيلها ومكوناتها، ويحاول متخيلاً أن يعطي لذلك قيمة إنسانية متجددة تغلب على تاريخيتها ليتحول المحلي منها إلى كوني.
أحب الأماكن إلى نفسه كان حضنها .. حضن جدته (زكية) التي كانت حكواتية من الطراز الرفيع، وكانت بالرغم من فقرها – كما يقول- من أنظف النساء، وثوبها الأبيض يعبق برائحة تمر الحنة، وشعرها برائحة الدريرة،
في العاشرة من عمره وهو في الصف الخامس بمدرسة الحمدانية بحي الفرافرة أحد أقدم أحياء حلب.. أبدى أستاذ اللغة العربية إعجابه بموضوع الإنشاء وقال له: إن موضوعك غريب.
حكايات الجدة .. البيت .. أمه وأبوه .. المدرسة .. طبعه والأماكن .. أسهمت في تشكيل وليد إخلاصي، عن ذلك يقول : “كنت اكتشف إعجاب والدتي ورفاق المدرسة، وأنا أروي لهم ما حدث معي في الطريق، أو أعيد حكاية فيلم رأيته في السينما .. كان طبعي دائماً في أن أكون محط أنظار الآخرين.
والدي مكتبة كبيرة .. اسم يرن في ذهني دائماً فصاحته المستمرة والدائمة في التعبير عن كل شيء في الحياة ودفع مستمر لي أن أقرأ.. كل شيء.
بالقرب من مدرسة الحمدانية حوش هائلة الاتساع، تعيش فيه عشرات العائلات .. أشجار خرجت من بين شقوق الأحجار الكبيرة .. كان هذا المكان ملاذا لي ومعه بدأت أحس أني أكبر سناً، وهكذا اكتشفت أن ألفة المكان تمنحك القوة”.
خلال المرحلة الثانوية وفي ثانوية التجهيز الأولى ( المأمون ) قال له أستاذه الشاعر سليمان العيسى “أنت كاتب فاستمر”، أما أستاذه الثاني خليل هنداوي، فقد جعله يتخيل عملية الإنشاء، عملية إبداع له علاقة بالفكر وجماليات الحياة.
الجامع الأموي الكبير حيث كان يأخذ كتبه ويدرس هناك، كان سبباً في تعلقه الشديد بالأمكنة القديمة .. أما واجهة جامع الأطروش قرب القلعة ذات العمارة المختلفة فقد جعلته يعيد النظر بكل ما مضى، وجعلته مديناً للمكان الحلبي في اتخاذ مواقف شجاعة في الثقافة ودافعاً لتنمية جدليته بشكل عام.
هل هي الألفة أم المعرفة الوثيقة السابقة .. أهو سحر المكان، أم أنه قدر الحدث أن يكون في مكان معين يسكنه .. “للحجارة نكهتها التي تسكن الرئتين والجلد .. المكان أنثى نشتاقها وأنت بحاجة إليها أبداً ، تدفن رأسك في صدرها وتبثها أحلامك وتشكو لها آلامك”.
مقدسة عنده هذه الأنثى .. أم وحبيبة .. وهي في أكثر أعماله عطاء وفكر .. هي المدينة أو هي الوطن عندما تتحول إلى رمز، وهي الوجه الآخر للرجل دوما وهذه الثنائية المتماهية هي التي تشكل مصدر الجمال الرئيسي في عملية الكتابة الإبداعية.
“علاقتي بحلب – يقول وليد إخلاصي – لا تشبهها أي علاقة أخرى ونزعة الملكية الوحيدة عندي هي انتمائي للمدينة وللأماكن والناس.
في علاقتي مع حلب نشأ عندي غرور شديد لأنني أعتبر نفسي الشاهد الدائم على ما يجري في حلب وعلى ما بقي منها، لقد باتت الأشياء والأشخاص جزءاً من المكان .. وقد لا أطيق تغيير كرسيي في مقهى اعتدت عليه.. كأني أريد أن أحافظ على كل شيء”.
“عرفت عمر البطش وبكري الكردي الذي كان يرفض تقاضي أجر تعليمه الغناء والموسيقى لتلامذته، كما كنت شاهداً على معاول بشاعة أمسك بها بعض تجار البناء ليهدموا أجزاء نبيلة من المدينة لإقامة عماراتهم القبيحة.
لهذا السبب ازداد حبي للقديم لا لأنه يحمل رائحة الزمن فقط ، بل لأنه كان رمزاً للعلاقة الصحيحة بين الإنسان وحاجاته ولهذا أيضاً بت أنظر إلى الخشب النبيل كما أنظر إلى الحجر الصلب وإلى بقايا ناس لا يساومون على تاريخهم أو على مبادئهم بأي قدر من المال مهما كان كبيراً.
هي بعض أحرف العشق الآخر التي طرزها الكبير وليد إخلاصي في رحلة بين عام ألف وتسعمئة وخمسة وثلاثين وعام ألفين واثنين وعشرين، والتي جاءت عبر أكثر من أربعين مؤلفاً توزعت بين القصة والمسرحية والدراسة، ترجم بعضها إلى الإنكليزية والفرنسية والروسية والألمانية.. وكثير من جوائز التكريم.
باب للجمر .. حكايات للهدهد .. زهرة الصندل .. طين ..نهر مجنون .. أعشاب سوداء ..متعة أخيرة .. سيرة حلبية وسمعت صوتاً هاتفاً، وبقية من كثير مازلت أسعى مع شواطئه الأولى .. استمع إلى ما حدث لعنترة، منتظراً انقضاء شتاء بحره اليابس .. علّي أعبر الصراط وأنعم بقبول أحضان السيدة الجميلة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار