إذا مر بي

بقلم عبد الخالق قلعه جي

وفي العشر الأواخر منه يتهادى رمضان .. حاملاً أيامه .. وأياماً لنا مرت ثواني وساعات نأملها كتبت محبة ورحمة وبشريات خير لابد آتية .. قبولا ًوجائزة صبر مالها من حساب.
تعود بي الذاكرة في شهر رمضان المبارك، إلى سنوات قريبة بعيدة خلت … سنوات سجلت صفحاتها الكثير من تفاصيل حياة، شكلت معها رزنامة تلك الأيام.. بأحداثها وأماكنها وأشخاصها.. من بقي على قيد حياة، ومن إلى كوكب له فيه موعد سافر.
ابتسامته النقية كانت دائماً حاضرةً، حضور تواضعه الجم وفيض محبته وسخاء عطائه وسعة صدره وموسوعية علومه ونبل أخلاقه.
خط هاتفه الأرضي ما هدأ يوماً، كان ساخناً ومشغولاً على مدار الساعة، ومن حَظِيَ برنين هاتفه دون انتظار، فقد نال حظاً عظيماً.
هذا لديه سؤال في النحو والصرف، وآخر في بيان وبديع، وثالث غرق في عَروض بحر فهرع إليه طالباً النجدة والنجاة، ورابعة تتمنى عليه أن يستمع إلى ما كتبته خاطرة أو غير ذلك نثراً كان أم شعراً… وهو إلى ذلك لا يكل ولا يمل، لا يضجر ولا يسأم ولا تفارقه سعادة بذل، ولا ابتسامة صوت ترسم محياه.
ذات يوم.. وبعد طول انتظار، ومحاولات ذاكرة الجهاز، الاتصال برقم هاتفه مرات ومرات .. نجحتُ أخيراً ووجدتُ السبيل إلى رنين هاتفه الذي أعلن انتهاء مكالمة ماراثونية.
بعد التحية والسلام وقبل أن أستفسر عن مدة انشغال الخط الطويلة هذه، رد الأستاذ محمود مقهقهاً من الضحك النبيل : إن شخصاً ما اتصل به للسؤال عن موضوع معين .. وسؤال أعقبه سؤال حتى وصل العدد إلى أكثر من ثلاثين سؤالاً، وبكل المحبة كان يردد ” الجود بالعلم زكاة العلم”
في رمضان عام ألفين وعشرة، وفي إحدى سهرات إذاعة حلب .. حل البرنامج الذي كنت أعده وأقدمه على الهواء، ضيفاً على العلامة محمود فاخوري في بيته الذي يقوم يسار آخر نزلة الهندسة.
أكثر من ساعتين امتدت سهرتنا الرمضانية تلك، صافحتُ عبرها ما استطعت جوانب هذه الشخصية الكبيرة، الحياتية والعلمية .. باحثاً وعلامةً.. مربياً وإنساناً.
كان لرمضان بطبيعة الحال، حصته الجميلة المحببة من خلال لطائف وطرائف تتصل بهذا الشهر الكريم وتجلياته الروحية والاجتماعية والإنسانية.
وكان أيضاً لابد من الإتيان أيضاً على قصة المسحرة، وذلك العجب الجميل الذي صوره ابن الوردي وتحدث عنه ضيفنا بكل صفاء الروح وعذوبة الكلام واسترساله..
عجبتُ في رمضان من مسحرة بديعة الحسن إلا أنها ابتدعت جاءت تسحرنا ليلاً فقلت لها كيف السحور وهذي الشمس قد طلعت .
تحدث عن نفسه، عن محبته للعلم والقراءة وعن شغفه بلغة الضاد وعطائه “هذه غايتي وهذا أنا” و “إذا مر بي يوم، ولم اتخذ يداً ولم أستفد علماً .. فما ذاك من عمري”
إلى عام ألفين وستة عشر تحملنا رزنامة رمضان وذاكرته.. يوم غيب الموت العلامة اللغوي محمود فاخوري، عن عمر ناهز ثلاثة وثمانين عاماً .. قضى جلها في رحاب العربية عاشقاً لها وأستاذاً.
العلامة محمود فاخوري من مواليد عام ألف وتسعمئة وثلاثة وثلاثين.
أستاذ جامعي وعضو في مجمع اللغة العربية بدمشق وعضو اتحاد الكتاب العرب ورئيس نادي التمثيل العربي للآداب والفنون بحلب.
عرفته الحياة الثقافية من خلال مئات المحاضرات والمقالات والدراسات في المنابر الثقافية والصحف والمجلات المحلية والعربية، بالإضافة إلى مشاركاته في مؤتمرات ثقافية وندوات عربية ودولية ..
له أكثر من ثلاثين كتاباً مطبوعاً ما بين مؤلف ومحقق منها :
المعين في الأدب العربي– المنهل من علوم العربية – الموسيقي الأعمى – وغيرها.
كان لإذاعة حلب ومنذ عام ألف وتسعمئة وستة وثمانين شرف حضور ومشاركة العلامة محمود فاخوري في بعض الزوايا والبرامج الإذاعية ( بريق الذهب في لغة العرب وغيرها )
المحبون فقط وليس غيرهم كانوا في الصلاة على روحه الطاهرة ومراسم التشييع والعزاء .. قيمة للوفاء ستبقى حاضرة ……
محمود فاخوري المربي الأديب – الباحث – اللغوي العلامة – القدوة – الإنسان …
رحمك الله .. عَلماً .. وعمل ماانقطع لك.. عِلمٌ ينتفع به …

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار