بيانكا ماضيّة
تأتي إليَّ من دونِ أن أستدعيكَ …
تتغلغلُ في أكثر لحظاتي هدوءاً وسكينةً …
تأتي حين لا أقوى على الحركةِ والتفكيرِ …
تستغلّ انشغالَ ذهني بصورٍ ضبابية، فتطلّ على عالم أحياه كلَّ يومٍ لتحلَّ محلي …
لم نلتقِ ذاتَ يومٍ ولن نلتقي …
ولكنني أراكَ دائماً … عاشقاً ومحباً .. ضاحكاً وباكياً … مهاجراً وعائداً … مستقلاً مايحلو لك من وسائل نقلٍ … ماشياً غيرَ متعبٍ …
أراقبُكَ كيف تتحرَّكُ وكيف تتكلَّمُ وكيف تحيا في لحظاتٍ قليلة…كأنَّ لاعمل لي في تلك اللحظاتِ سوى مراقبتِكَ، سوى رصدِ حركاتِكَ، وسبرِ أغوارِكَ، ثم تذهب كما لم تأتِ .
دائماً تخترقُ الزمانَ والمكانَ، وقد تحل المشكلات التي لم أكن لأستطيعَ حلَّها …. من أينَ لك بهذه القدرة، هل أنتَ شبيهي أم أنا شبيهُك؟
تلتقي أحياناً بأصدقائي وأقاربي، حتى الأموات منهم، وينظرون إليكَ وتتحدث إليهم كأنهم يعرفونَكَ، كأنكَ أنا، ولستَ بأناي، من أينَ لك أن تحلَّ محلي لتعيش حياةً لي، وليس بإمكاني أن أحياها مثلما تحياها أنت؟؟
لم تكنْ لتعيشَ السعادةَ بأقصى درجاتها مثلما أعيشُها في بعض الأوقات …
فكم مرةٍ خضعتَ لامتحانٍ ولم تعرف الإجابةَ عن سؤالٍ واحدٍ، وكم مرةٍ دخلتَ في متاهات الخوفِ والرعب، ورغبتَ أن أحيا مثلما تحيا أنت، أن أعيشَ لحظاتِ الخوف مثلما تعيشها أنتَ…
ولكنني أغبطكَ على عالمكَ الذي تحياه، فكثيراً مايسري الدفءُ في أوصالكَ، وتحقق أحلاماً وأماني لم أبلغ بعضَها قط.
لا أعرف من أين تهبط عليّ فجأة لأجدَ صورتَك متجسدةً أمامي … ثم تمضي لتفعلَ مالا أستطيع فعلَه … لتقولَ مالم أقوَ على قوله … لتحققَ أحلامي أنتَ فتعيشَ نشوتي وسعادتي … من أين لكَ بهذه الجرأةِ لتعيشَ أمنياتي ؟؟!!
كم طرتَ نشوانَ وأنتَ تلتقي بحبيبتي …
لم أكن أشعر حينها بالغيرة … لكأنني أنا الذي التقيتُها، ولم أكن لألتقيها … فلاتزال بعيدةً عني…
كم مرةٍ رأيتُكَ تلمسُ يدَها ومراتٍ تعانقها، ولم يكن بإمكاني فعلُ شيء …
كنتُ أشعر بما تشعر به أنتَ، حتى خلتُ أنني أنتَ …
هنالك شعرتُ بالحبِّ الغامر، بنسائمِ الهواء تتسرب إلى رئتي كما لم تتسربْ يوماً إليها، حتى الخواءُ كان ينبض بالحبِّ، كلّ شيء هناك كان ذا معنى …
كان شعوراً يفيض بالروعةِ والغموض، يبقى يلازمني لبعض اللحظات، ثم يضمحلّ إلى لارجعة …
كأنني لم أشعر بذاك الشعورِ في لحظةٍ من اللحظات السحرية، ألأنك كنتَ أنتَ هناك، ولم أكنْ أنا؟؟
متى ستتغير مواقعُنا فأكونُ أنا بدلاً منك؟؟!!
لكَ حياتُكَ ولي حياتي، فلماذا تقتحمُ عليّ عزلتي في منامي، وتقتنصُ اللحظاتِ لتطلَّ من قاعك العميقِ على عالمٍ مدهشٍ وغريبٍ وسحري …هو لكَ وليس لي !!
لكَ تاريخُكَ ومستحيلاتُك والأبنيةُ الشاهقة التي تطير فوقها…
كلّ شيء تعيشه لايمكنني العيشَ فيه، كأننا عدوان، أو صديقان، أو لاعلاقةَ بيننا البتة …
لكَ فوضاك ولي نظامي …
فلماذا تطلّ عليّ كلما سنحت لك الفرصةُ بذلك …
أتريد قهري؟ أم جعلي أعيشُ حياةً أخرى؟ لم أعد أعرف ما الذي تريده مني ؟؟؟
أراكَ أحياناً في قاع بئرٍ عميقة، فأشعرُ مثلَك بالخوفِ واليأس وترتعدُ فرائصي في هذه الظلمةِ المخيفة …
وأحياناً أراكَ تطيرُ فوق الهضابِ والبحارِ، وتصعد السلالمَ إلى لانهاية، فأشعر بروحي تتراقصُ فتلامسُ فضاءاتٍ لم أشعر بوجودها في حياتي، كأنني أعبرُ موجةً غيرَ منحازةٍ إلى أعماقِ البحار!
أذكر أنكَ جئتني ذات يوم في حُلَّة لم تكن عليها قبلُ، ولم أكن آنذاك متهيئاً للقائِكَ …
كنتُ أعاني ألمَ الفراق وحزنه، يوم أهالوا الترابَ فوق جسدِ حبيبتي، ورحلتْ إلى مكانٍ تسبح فيه روحُها بعيدةً عني …
كان السأمُ مستبداً بي، وحزنُ الفراق يرنو إليّ صامتاً …
كنتُ يومها معتصماً بالسكوتِ، يحيطني الأسى من كلّ جانبٍ، وماردُ الليل يلفني بردائه الأسود البارد …
وغفتْ عيناي لأراكَ ترفلُ بثوبٍ أبيضَ يجللّكَ، وإلى جانبك حبيبتي بفستان زفافِها تتأبطُ ذراعَك…
كنتما تسيران في طريقٍ طويلة على جانبيها يموج اخضرارُ العشب…
يومها شعرتُ بنشوةٍ تشيع في تلك الطريق، واكتستْ روحي بملاءةِ الحبور …
ولم يطلْ طريقُكَ معها، إذ غبتما إثرَ اختلاجةٍ هزّت كياني…
هل كنتَ تشعر بذاك الحبورِ الذي ملأني؟
هل كنتَ تعرفُ إلى أين تمضي بها؟
ليتني كنت مكانَك يومذاك، ليتني كنتُ أسيرُ إلى جانبها، ولتكن الطريقُ طويلةً بلانهاية …
مارأيُكَ في أن تأخذني إلى عالمكِ، لعلّني أشعر ببعضٍ مما كنتَ تشعرُ به، وسأكون رهنَ ساعاتٍ قليلةٍ لا أكثر، هي أجدى من أن أبعثرَها هنا بين الأوهام والخيبات …
هبْ لي ذاك الوجودَ قليلاً عسى أن ينفذَ إلى أغوارِ نفسي، فيسربلَ قلبي بالأمان …
* * *
لم يجدْ في حديثِ النفسِ فائدةً ترتجى، لم يجدْ غيرَ عالمٍ وهميٍّ لايمتُّ إلى الواقع بصلة، كان يَودُّ أن يكتشفَ الحقائقَ، أن ينخرطَ في أكثر تفاصيلِ الواقعِ متعةً وسعادة، أن يعيشَ الحياةَ بكل مافيها، فهو الإنسانُ الذي ولد ليحيا، ليستمتعَ بعالمٍ وُهبَ له منذ الأزل …
نظرَ إلى البعيد، كان ثمَّةَ خيالُ امرأةٍ آتٍ إليه من غياهبَ مجهولةٍ، يدنو منه شيئاً فشيئاً ..
هاهي تتجسدُ أمامه جسداً وروحاً ينضحان بأنوثةٍ تفيض عذوبةً وصفاء … وكان عناقٌ طويلُ الأمد، وعالمٌ يحتفي بالكثير من الإبداعِ والفن .
* * *
قيل … إن رجلاً من عالمِ الأحلام اقتحم مدينةً من مدن الأساطير وراح يفتِّشُ عن لغز؛ ليزيحَ النقابَ عن الغوامض، إلى أن حطَّ رحالَه في ركنٍ من أركان المدينة، وراح يرسمُ على صفحةٍ بيضاءَ كبيرةٍ عالماً مفترضاً يحتوي على قدرٍ غيرِ قليلٍ من رموزٍ كان لها لونُ الماءِ الزلال!!.