بقلم الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
العقل من أعظم نعم الله تعالى للبشرية، وبه تميّز الإنسان على سائر المخلوقات، وإن جميع التطورات والأطوار الحضارية المادية التي مرّت بها الإنسانية جمعاء هي في حقيقتها من ثمرة العقل البشري، أبتداءً من صناعة الإبرة وانتهاءً بما نشهده في عصرنا من تقدّمٍ صناعيٍ وتكنلوجي.
والعقل رغم مكانته يظلّ محدوداً، فهناك العديد من المخلوقات التي لا يستطيع العقل كشف كنْهها وحقيقتها، فهو وإن أدرك بعض ظواهر الأشياء، فإنّه لم يصل إلى أغوارها وأعماقها، وهذا ما نبّه عليه القرآن، فقال تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الروم: 7). فمسائل الغيب –مثلاً- لا سبيل إلى معرفتها معرفة عقليّة خالصة، وإنّما طريق معرفتها الوحي.
إن العقل وقف عاجزاً ومنذ البداية إلى الآن أمام المسائل العقلية البحتة التي بقيت محلاً للبحث منذ بداية البشرية مروراً بالعصور الوسطى إلى زمن تفتّح العقل البشري ونضوجه وصولاً إلى عصر التقدم والتكنولوجيا.
لقد بقيت مسائل الأخلاق ومسائل ما وراء الطبيعة في مكانها من الفكر الإنساني، لم تبرحه أبداً، وبقي الخلاف فيها قائماً ومستمراً.
ومنذ البداية حاول الأقدمون وضع معايير للتمييز بين الصحيح والخاطئ، وبين الحق والباطل، وبين الخير والشر.
من أشهر تلك المعايير ما جاء به الفيلسوف اليوناني أرسطو المتوفى سنة “322 قبل الميلاد” حيث وضع علم المنطق، غير أن المنطق لم يكن عاصماً للفكر عن الجنوح والضياع والضلال.
وقد برع في علم المنطق الكثير من المفكرين والعلماء، فمن علماء المسلمين: الكندي والفارابي وابن سينا، وكذلك حجة الإسلام الإمام الغزالي؛ لقد برع فيه براعةً كبرى.
كما برز فيه من فلاسفة المغرب ابن باجة، وابن طفيلٍ وابن رشد.
على أن جميعهم قد اختلفوا اختلافاً جذرياً في أفكارهم وآرائهم، وتنازعوا نزاعاتٍ ألفوا من أجلها الكُتب الضخمة.
وأمام هذه الحالة من الاختلاف يقف العقلُ عاجزاً.
نعم، إذ لا يستطيع العقل وحده تحديد الخطأ من الصواب من خلال منطق أرسطو.
إن جميع المناطقة والفلاسفة الذين اختلفوا وتنازعوا في أفكارهم ونظرياتهم كانوا يستندون إلى أدلة عقلية يَسهُلُ هدمها، كما يسهل جَداً الرد على من هدمها ونسف رأيه أيضاً.
وبعد أن تضلّع الإمام الغزالي بعلم المنطق وأدرك دقائقه وحقائقه قام بتأليف كتاب “تهافت الفلاسفة” الذي هدم من خلاله آرائهم ونقض عُراهم عروةً عروة.
حيث انقشعت ظلمات آرائهم بأنوار هديه السديد، وهُدمت قلاع نظرياتهم بمعولَ فكره الرشيد، وتساقطت بروج تأويلاتهم برياح تمحيصهِ الشديد.
وبيّن الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه بعد نقض تلك الفلسفات أن العقل الإنساني لا يمكن له الحكم في عالم الإلهيات والأخلاق بل يدور في فلك الظن فقط.
والعقل البشري لا يملك أهلية البحث في الإلهيات والأخلاق والماورائيات.
وتمضي الأيام والسنون ويطلع الفيلسوف الفرنسي ديكارت ويزعم أنه أوجد معياراً جديداً للفصل بين الحق والباطل والخطأ والصواب، حيث يؤكد ان العقل البشري لو اتبع في تفكيره المعيار الذي وضعه ديكارت فإنه سيصل إلى الحق والصواب.
وكسابقيه من الفلاسفة سقط معياره بالتجربة، وكان أول دليلٍ على خطأ ديكارت التخبط والأخطاء الواضحة في الجانب المادي، فضلاً عن الجانب المعنوي والأخلاقي، وقد انتقده وخالفه في معياره الذي وضعه الكثير من الفلاسفة والمفكرين.
وانتهى الحال في منهج ديكارت كما انتهى في منطق أرسطو وبقيت المسائل التي يبحث عنها الإنسان منذ فجر الخليقة إلى أيامنا هذه مجالاً للبحث والاختلاف يعجز العقل فيها أن يصل إلى اليقين.
إن العقل البشري لا يصل في مسائل الإلهيات والأخلاق والماوراءيات إلا من خلال النصوص الإلهية التي أتت من لدن خالق هذا الكون .
وبيّن الله تعالى أن هذه المستندات والداعمات للعقل غير قابلة للتحريف والضلال حيث قال سبحانه: (إنّا نحن نزّلنا الذكرَ وإنّا له لحافظون) (الحجر: 9) فهو الفلاح والنجاح والهداية.
إذاً فالإنسان فيما يخص الإلهيات والأخلاق هو مُتّبع لرُسل رب العالمين ليس له ولا يملك أن يخترع غير ما جاؤوا به من تشريعات وقوانين تضمن للمجتمع السعادة والبناء.