- حسين قاطرجي
في هذه الرواية تتحوّل كل أشكال الحياة إلى أقفاصٍ وأفخاخ تتصيّد ماتبقى من براءة الأطفال وطهارة الأرض البكر. والألم الذي سيحاصر القارئ من مبتدأ الرواية حتى آخرها مردّه أنّ أحداث الرواية لا تتعلق بطورٍ من أطوار التاريخ، بل هي أحداثٌ حقيقية تتكرّر في بقاع الأرض حيث تنشب الحرب أظفارها في لحوم الأبرياء وتدور عليهم دائرة غرائز أمراء الحرب ومُشعلي أوارها، وكأنّنا في عالمٍ بغير قوانين، عالمٌ من القماءة والبذاءة وسوء المعشر.
في الرواية: آغو طفلٌ في التاسعة من عمره، يمنّي نفسه بالذهاب إلى المدرسة أسوةً ببقيّة أقرانه من أبناء البلدة؛ وهذا ما كان صباح يومٍ سعيد. لكنّ الحرب زفرت أنفاسها السّامة واشتعل القتال بين الجبهات في بلدٍ إفريقيٍّ حيّده الكاتب ولم يذكره، فلجأ الأهالي إلى الكنيسة عسى أن تتغمّدهم يد الله بالحماية والرأفة، لكنّ أعداءهم رؤوا فيهم وليمةً من لحم فهجموا عليهم تسبقهم نيران البنادق، فأوعز الآباء إلى أبنائهم أمراً بالهروب إلى الأدغال لأنّ الحيوانات شديدة الافتراس ووحوش الغابة العصيّة على الترويض أرحم من إنسانٍ خلع نفسه من ربقة البشرية، فركض آغو مسافةً مُجهدة حتى فقد وعيه، وما أفاق حتى وجد نفسه في معسكرٍ لإحدى مليشيات الحرب حيث سيتم وضعه إلزاماً في الجنديّة، وهنا بالضبط يبدأ الكاتب فصل روايته الأول.
يعرض الروائي أيويلا في روايته “وحوش بلا وطن” جريمة إقحام الأطفال في الحروب، والحق أقول أنّنا رأينا في الحروب التي شهدتها بلداننا العربية ما يُفضي لأن نعيَ تماماً دروس النّذالة التي احترفتها المليشيات الإفريقيّة التي حكى عنها الكاتب مفنّداً جرائمها، لقد رأينا كيف تغرّر الفصائل المسلحة بالأطفال وتزجّ بهم في أتون حربٍ لايملكون فيها شروى نقير، وتعيد فيهم صياغة الإنسان حتى يربض الشرّ في نفوسهم ويرسخ عندهم حبّ الجـ.ـريمة، وتصير المجـ.ـازر عندهم ملح الحياة وزيتها ووقودها اللذيذ، ذلك أن الإنسان -وفي أيّ مكانٍ من العالم- إذا ما أعطيته سلاحاً وأُطلقت يده وهو لايملك ما يحجره عن القـ.ـتل ديناً أو أخلاقاً نجم عنه حيوانٌ لا يعرف إلا لغة الدم ولايملك من البشرية إلا صورة وجهه. بل ويرى في التحنّن والإشفاق عبءاً لايلبث أن ينفضه عن نفسه. فإذا ناشدته المرحمة وأخوّة الإنسانيّة قال لك: هذا شيءٌ لا نعرفه ولا وجود له عندنا.
يتدرّب آغو على القتل حتى يتقنه، ويغتصبه القائد حتى يستمرئ الطفل الدنيّة ويلتذّ بها، ويجوع حتى يقتات الأعشاب والحشرات ولحوم الضواري وجثث القتلى، لقد حوّلته الحرب إلى إنسانٍ بلا سريرة، يمارس كلّ تنكيلٍ دون أن يتصدّى له أيُّ رادع، وهذا ديدن الحروب في عالمٍ يلوّثه القذر من جوانبه كآفة.
استطاع الروائي وضع قرّائه في جوّ الرواية وبيئتها بمهارة، لقد اعتمد على التوصيف الدقيق للبيئة والأشخاص لدرجة أن يشعر القارئ أنّه في بيئةٍ من المألوفات، كما أنّه ركّز على نعت شخصيات الرواية بنعوتٍ حيوانيّةٍ تلائم البيئة أولاً وطبيعة نفوسهم ثانياً، فجاء السرد منسجماً وحال ثيمة العمل الأدبي برمّته.
صدرت الرواية عن الهيئة العامة السورية للكتاب عام 2022، وتقع في 132 صفحة من القطع الكبير، وبترجمة محترفة من السيد محمد إبراهيم العبدلله. وخلاصة القول هي رواية مهمّة مؤلمة ليس من الميسور أن تُقرأ دون أن تؤثر عميقاً في العقل والوجدان.