أضواء …قصة قصيرة

  • بيانكا ماضيّة

بحزن شديد، وجسد متهالك، كان يتقدّم في طريقه إلى المقبرة، وفي يده بعض من الورد الجوري الذي كانت تفضّله على غيره من أنواع الورد زوجته التي يزور مثواها الآن.

لقد خيّل إليه أنه يسمع صوتها آتياً من تلك الحفرة التي ضمّت رفاتها، فأنصت جيداً..

المكان معتم، وضوءان أحدهما على وجهه، والآخر على ضريح زوجته. راح الصوت، كأنه آت من بعيد، يعيد ذكريات جميلة حدثت في أثناء حياتهما، حين باح لها بحبه، حين ليلة عرسهما، فلاحت ابتسامة على وجه الزوج، فراح يقرّب تلك الوردات من أنفه ليتنشقها، فأسكره عبيرها..

ثم ران صمت في المقبرة، لكن وشوشات بدت وكأنها آتية من بقعة ما في المكان، وتابع الزوج طريقه للوصول إلى الضريح، فأتاه صوت زوجته مرة أخرى ليعيد ذكريات مأساوية، حين قدوم ولدهما البكر الذي لم يهنأ بالحياة سوى أشهر ثلاثة، فتجهّم وجه الزوج وبانت دمعتان رقراقتان في عينيه، ثم ران الصمت مرة أخرى وانطفأ الضوءان ليحل محلّهما ضوء وحيد على الوردات التي بين يديه، لقد تبدّل شكلها، إذ بدت وكأنها ذابلة، تلقي برأسها نحو الأسفل…

في هذه الأثناء جاء صوت بعيد، صوت رجل يجلله الأسى والحزن، راح يقصّ حكاية طفله الذي قتله الإرهـ.ـابيّون أمام عينيه، انتقل الضوء الذي كان مسلّطاً على الوردات ليتم تسليطه على وجه الرجل الذي ظهر في آخر المسرح، والتفتت الوجوه التي كانت تتابع المسرحية لتتابع كلام الرجل.. حين وضع الإرهـ.ـابي فوهة مسدسه على رأس طفلي، صحت من أعماقي: لا تقتله، اقتلني أنا عوضاً عنه.. وراحت الدموع تنهمر مدراراً من عينيه، وكذلك ترقرقت الدموع في عيون المشاهدين.. وإذا بالرجل ذي الوردات الذي يعتلي خشبة المسرح يصيح: لاتذكرني يارجل بمشهد الطفلة التي قتلت، لقد رأيتها بأم عيني، حين سقطت وسط الشارع وهي تحمل لعبتها بيدها، فالتفت المشاهدون إلى خشبة المسرح ليتابعوا مايقوله الممثل، فإذا به يسقط على ركبتيه وتتطاير الوردات من يده، وبحركة كأنه يضم الطفلة إلى صدره، يتابع: حملتها وهي مازالت تتنفس، وركضت بها لإسعافها، وحين ركبت السيارة التي توقفت لنقلنا إلى المشفى مال رأس الطفلة وانقطعت أنفاسها.. وهنا شهقت امرأة من وسط الحضور شهقة اقشعرت لها أجساد الحاضرين، وبدأت بالبكاء والنحيب، وسقط الضوء عليها فبان جسدها المرتعش للجمهور.

ثم ران صمت مرة أخرى في المكان، وإذا بصوت الزوجة الميتة يأتي من مكان ما….

حينها لم يستطع الرجل، الذي جلس في المساء ليقرأ الرواية التي بين يديه، أن يتابع تفاصيلها، فقد دوى صوت قوي حوّل المشهد كله إلى غبار وأشـ.ـلاء متناثرة، وعتمة مابعدها عتمة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار