ذكرى الهجرة النبوية

بقلم الدكتور ربيع حسن كوكة

علمتنا معنى الثبات بهجرةٍ…

ظهرت كشمسٍ نوّرت أكواننا

فنفتْ من القلبِ الـمُعنّى حُزنَهُ…

وكستْ حياة العالمينَ أمانا

 

تعبق في يومنا هذا ذكرى الهجرة النبوية الشريفة حيث خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة المُكرّمةَ إلى المدينة المنوّرة بعد أن قاسى من المشركين ما قاساه؛ خرج إلى المدينة المنوّرة ينشُدُ بناء مجتمعٍ قائمٍ على أساس العدل والفطرة السليمة التي فطر الله تعالى الناس عليها.

لقد كانت هجرته صلى الله عليه وسلم من أبرز أحداث سيرته العطرة التي نستجلي من خلالها مواقف ووقفات، وننهل من معينها تأملات وآمال؛ إنها تُحفزنا على الرجوع إلى تاريخنا الحقيقي المُشرق لنفهمه ولنعي أسباب النصر والقوة فيه، لنُصلح أنفسنا أفراداً ومجتمعات؛ لنلتقي بثوابتنا الجامعة فنرتقي في جوامعنا والجامعة.

ذكرى الهجرة النبوية تجعلنا نطّلعُ على مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها لنعتبر بها ونستنير بما جرى في تلك الأحداث؛ لنستخرج الدروس التي نُحيي من خلالها النفوس؛ وتبعث فينا الهمة العالية للعمل والجُهد للوصول إلى غاياتنا المنشودة؛ مقتفين بذلك أثر المُعلّم الأول السيد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم.

ومن الدروس التي نستفيدها من الهجرة النبوية العظيمة:

الهجرة مواجهةٌ عظيمةٌ لبناءِ حياةٍ متكاملة:

لقد كانت الهجرة النبوية الشريفة بمثابة الشروع ببناء حياة جديدة للأمة بأسرها، وقد قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفيذاً لأمر الله تعالى، وما كانت يوماً تَحيُّداً عن المواجهة أو هروباً من عدو؛ بل هي الانتقال من مواجهةٍ صغيرة إلى مواجهةٍ من نوعٍ أكبر وأعظم؛ لقد كانت مواجهةً مع كل الطغيان والاستكبار البشري.

لقد غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة محوّلاً خطة المواجهة مع مشركي مكة إلى مواجهة مع الدنيا بأسرها؛ وقد تجلى هذا المعنى بوضوح عندما أرسل المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالةً مع عمه أبي طالب: قالوا يا أبا طالب ماذا يريدُ ابن أخيك؟ إِنْ كَانَ يُريدُ جَاهًا أَعْطَيْنَاهُ فَلَنْ نُمْضِيَ أمرًا إِلَّا بَعْدَ مَشُورَتَهِ، وَإِنْ كَانَ يُريدُ مَالًا جَمَعْنَا لَهُ حَتَّى يَصِيرَ أَغنانَا وَإِنْ كانَ يُريدُ الملكَ تَوَّجْنَاهُ عَلَيْنَا وَلكنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَجَابَ عَمَّهُ بِقَوْلِهِ: ( لَوْ وَضَعُوا الشَّمسَ في يَمِينِي وَالقَمَرَ في شِمَالِي مَا تَرَكْتُ هذا الأمرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ أَوْ أَهْلِكَ دُونَهُ).

لقد كانت مواجهة رسول الله صلى الله عليه وسلم على مستوى قوله، فكأن الشمس والقمر وكل عناصر الكون قد شُغلت بهذه المواجهة التي كانت كونية عالمية أبدية بامتياز. استغرقت الزمان والمكان والإنسان، فأوجدت أعظم حضارات الكون.

الهجرة ربطٌ بين القوة الروحية والقوة المادية:

كما أن دين الإسلام أتى ليوفَّق بين الروح والمادة فقد أتت الهجرة النبوية الشريفة ترسيخاً لهذا المعنى إذ علمتنا الهجرة أن نُحسن التوكل على الله تعالى ونأخذ بالأسباب التي تُسهمُ في إنجاح العمل؛ فالتوكل على الله تعالى يعني صدق اعتماد القلب على الله سبحانه في دفع المضار وجلب المنافع، والتَّحقق واليقين بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يصل ولا يقطع ولا يُفرق ولا يجمع ولا يضر ولا ينفع إلا الله جل جلاله وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا ) رواه أحمد. فهو يهب لصاحبه قوةً روحية لا يمكن أن تقف أمامها الصعوبات.

لقد علمتنا الهجرة أن التوكُّل سبيل النَّصر، فكلما أشتدَّت الظُّلمات، جاء الصُّبح أكثر انبلاجًا، ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ﴾ [يوسف: 110]،  إنَّها جنودُ الله التي تصحب المتوكِّلين عليه، هذا سُراقة بن مالك يُبْصِر مكان النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه ، ويَحْزن أبو بكر ويقول: ( أُتينا يا رسول الله. فيقول له النبِيُّ صلى الله عليه وسلَّم: لا تَحزنْ؛ إِنَّ الله مَعَنا )، فإذا بالعدوِّ ينقلب صديقاً، يعرض عليهما الزادَ والمتاع، ويَذْهب بوصيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: ( أَخْفِ عنَّا ) رواه البخاري.

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته الشريفة متوكلاً على الله تعالى واثقاً بنصره، ومع ذلك قد أخذ بالأسباب فما كان متهاوناً أو متواكلاً، بل وضع خُطَّةً مُحكمةً ومنظَّمةً ونفَّذها بكلِّ إتقان.

وبعد التوكل والأخذ بالأسباب سنجد التأييد الإلهي العظيم الذي تعجز عنه تدابيرُ البشر؛ فمَنِ الذي منع المشركين من أن يَعْثروا على النبِيِّ صلى الله عليه وسلَّم وصاحبه، وقد وقَفوا على شفير الغار، حتَّى قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لو أنَّ أحدهم نظر تَحْت قدمَيْه لأبصرنا؟ إنه الله؛ ولذلك كان جواب الرسول صلى الله عليه وسلَّم: ( ما ظَنُّك يا أبا بكر باثْنَيْن اللهُ ثالثُهما ) رواه البخاري.

الهجرة درسٌ يفتح أبواب السرور وتنفي الحزن:

قال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]

تعلمنا الهجرة النبوية عدم القنوط واليأس وتبعث فينا همةً عالية وثقةً بنصر الله تعالى فقد بقي النبِيُّ  صلى الله عليه وسلَّم في مكة يدعو قومه إلى الهدى مدَّةً من الزَّمن، فما آمن له إلاَّ القليل، وعانى مع أصحابه الاضطهاد والنَّكال، فلم يثنه ذلك عن دعوته، بل زاده إصرارًا وثَباتًا، ومضى يبحث عن حلول بديلة، فكان أنْ خرَجَ إلى الطائف، باحثاً عن مكانٍ صالحٍ للدَّعوة، لكنْ أهل الطائف لم يكونوا أفضل حالاً من مشركي مكة، فأُوذي وقُذِف بالحجارة، وخرج من الطَّائف ولم يحقق غايته، ورفع دعاءً لربِّ العالمين كان مما قال فيه: (إن لم يكن بك غضبُ عليَّ فلا أُبالي ) إنه عنوانُ الثقة والعمل الدؤوب، ثم كان منه صلى الله عليه وسلم المواصلة في الدعوة إلى دين الحق غير ملتفةً إلى العوائق والمصاعب فأخذ يَعْرض نفسه بإصرار على القبائل في موسم الحجِّ، ويقول: (ألاَ رجل يَحْملني إلى قومه، فإنَّ قريشًا قد منعوني أن أبلِّغ كلام ربِّي))؛ رواه ابن ماجه.

فرفضَتْ خَمْسَ عشرةَ قبيلةً دعوتَه، حتى شرح الله له صدور الأنصار، فكانت بيعة العقبة الأولى والثَّانية، وكانت سفارة مصعب بن عمير إلى المدينة، الذي هيَّأ التُّربة الصالحة لاستمرار الدَّعوة، وتكوين المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة، فكانت الهجرة تتويجًا لِعَمَلٍ مستمرٍ، وصَبْر شديد، وحركة لا تعرف الكلل أو الملل.

لتكن دروس الهجرة راسخةً في نفوس الأجيال تبنيهم حسّاً ومعنىً وتجعل منهم قادة المجتمع في سائر مجالات الحياة، فيا ربّنا أكرمنا بسائر تجليات الهجرة واجعلنا أهلاً لنردد قولك على التحقيق: { لا تحزن إن الله معنا } .

 

======

بإمكانكم متابعة آخر الأخبار و التطورات على قناتنا في تلغرام

https://t.me/jamaheer

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار