بقلم عبد الخالق قلعه جي
ما كان يدور في خلدي أنّا سنقف اليوم حزانى حائرين، أ أنفسنا نرثي أم إياك وقد تذابلت الجفون وهام نعاس الوجد، وأسدلت الستارة وعدت وحيداً غريباً.
لعلك الآن.. وأنت تعبر المقام تدخل كوناً، تبهر موسيقاه عينيك، وتلمس بأناملك معانيه، ويفغمك جمال لا يتحرف في حرف، ويُؤذن لك بالدخول ها هنا مشرق الأنوار.
بين سقيفةٍ ولحد، سفَر وأسفار وخمسة وثمانون عاماً، انحفرت على أوراقها.. نقوش من مشاهد مختزنة ومعارف.. وكثير من المحبة.
الحي الشعبي الكلاسة.. تنور كلس وبرميل غسيل.. قصاصات ورق يحرقها في حذائه لئلا تتجمد قدماه في أيام حلب الشتائية.. صور القيامة والحساب والجنة والنار وهي تتقافز من الكتاب المبين تتجسد أمامه في تنور الكلس المشتعل ليل نهار وهو في الكَتَّاب لم يبلغ الحلم بعد.
تعلمت الحب من والدي الحاج محمد..
تعلمت عشق الحجارة
من عامل بناء سوى بالحجارة أرصفة حلب الشهباء..
كان يقول لي يا بني: تعلَّم كيف تمهد للناس مواطئ أقدامهم، حتى لو لم يكن لك فيها موطئ قدم.
في عتمة الليل
كنت أسمع نحيباً متصلاً يقطع نياط القلب
كانت أدواته التي صحبته في رحلة العمر
المعول والمسحاة والشاقول
تبكي عليه في عتمة الليل
الطريق من الكلاسة إلى مدرسة العرفان الابتدائية في الأسواق القديمة، وأنا أقطعه يوميا عبر مقبرة الكليماتي وخندق السور الموازي وباب قنسرين الشامخ والحارات القديمة بأزقتها المتلاوية وعمائرها الأثرية، علمني كيف يقفز التاريخ من الأبراج المطلة وشقوق الأسوار إلى دم القصيدة والمسرحية.
ثلاث سنوات من الكلاسة إلى دار المعلمين كنت أمر يوميا بباب أنطاكية.. وأستاذ التاريخ يقول لنا: يا أبنائي باب انطاكية هو رمز للمجد العربي، يوم كان..
في أغوار البعيد.. مولد النور تجلى.. مع النسيمي رأيتَ الطريق وقد تراءت سيدة الحروف، معراجاً للطير الحبيس حيث القيامة… تطوف في أحياء حلب.. تلقي السلام على صاحبك.. صاحبِ حلبٌ أحلامي ورؤاي.. الأسدي، وتقبِّل روح من بالسر باح.. وكــــذا دمــــاء العاشقيــــن تبــــاح.
زهور الموت والمطر.. حتى وأنت تغادر.. تذرف الحرف جمالاً وندى.. أعتقد أن هذه الأعمال هي آخر القطوف في كرمتي.. هكذا قلبك قالها قبل أيام من رحيلك وقد رأى…
ثماني مسرحيات أنجزت جميعاً في النصف الثاني من هذا العام 2023 وكأنني كنتُ في سباق مع سؤر بقي في كأسي من العمر…
بالنذر يوفون.. على مسرح المركز الثقافي بالعزيزية أواخر التسعينات، وفي ندوة تكريمية لك الأستاذ عبد الفتاح قلعه جي قلت: هذا التكريم وهذه الندوة يشكلان دافعا لي للاستمرار فيما نذرت نفسي إليه حتى يرتشف الجهد المبدع آخر قطرة من كأس العمر.. وينجز القلعه جي وعده.
في البال والذاكرة أيام بها أزهو، أني جلست إليك في إذاعة حلب تلميذاً.. فكنتَ خير معلِّم في الكتابة والاعداد والالقاء والتقديم.. ولعلها مازالت حاضرة طاولتك هناك وعبق القهوة ونصفها، وحبات الهال.. هنا حلب فكر وفن وعشرات المسلسلات الاذاعية والتلفزيونية سهرات ولقاءات..
إلى كل من جاءك يسعى سائلاً مددت له يداً وأهديته سلماً ومفتاحاً.. يعبر بهما فضاءات ابداعات ملونة..
وبعد أن أرسلُ لك رابط مقالاتي في صحيفة الجماهير، كنت تكتب لي قرأت وعلقت وشاركت.. وشاحات على صدري أستاذي ومعلمي.
ثلاث صرخات على الورق وخشبة المسرح كانت.. ما زفرت آهة ولا سمعنا لك شكوى.. وكنت رغم آلام روحك والجسد، كنت الأيُّوب المحتسب الحامد المرضي الراضي ولم تفعل..
وهمستَ في قلبي: الشمعة تذوب وذرات نورها تظل عالقة في الفضاء، ومثلها الأجساد.. تسافر في التراب وتسكن الأقوال خيمة الذكر لا تبرحها..
مازال سقراط يحاور تلامذته
والعطار يعطر الأرواح بمنطق الطير
وابن سينا ينشد هبطت إليك من المحل الأرفع
والسهروردي يعلم مريديه حكمة الاشراق والمعري يخفف الوطء
طوبى لشموع المعرفة والايمان والحكمة.. طوبى لك أيها العارف العاشق.
أكثر من خمس وخمسين – بنات وحيك –
وتسع وتسعون
تيتمت وهي لا تدري ونشوتها…
من كل عنقود ذكرى كنت تعتصر
ونحن من حولها أنضاء غربتنا…
وأنت عنا وراء الغيب مستتر
الثمانية والعشرون منك أستاذنا ولروحك… فلترقد بسلام وقد تيممت بصعيد عشقك وآلامك وعذاباتك، وتوضأت بدماء حروفك.. فلترقد بجوار أبي محمد وهو يقول للوفائية الوفية أمِك:
بين أن افترقنا والتقينا، رفَّة هدب، وانتباهه ذاكر.. لن نجوع بعد اليوم.. أو نعرى ولن نحزن.
عبد الفتاح قلعه جي، واسمك من أي لقب.. أكبر.. لروحك الوفاء والخلود.