بقلم عبد الخالق قلعه جي
واحدة من الحفلات التي يحتفظ بها أرشيفه.. تلك التي أحياها في قصر المؤتمرات بباريس عام ألف وتسعمئة وثمانية وسبعين، وغدت وصلاتها برنامجاً يؤديه المطربون من بعده في حفلاتهم وأمسياتهم.
بعد باقة من الموشحات، يغني الكبير صباح فخري الفل والياسمين والورد.. التي يعود له الفضل في إحيائها، بعد أن سجلتها كوكب الشرق أم كلثوم عام ألف وتسعمئة وستة وعشرين.
وأنا أعبر الشارع إلى خميلته – تسبق عيني قدماي – جنَّات ع مد النظر.. ما بينشبع منها نظر.. تهادت من الذاكرة أضمومة الكلمات الجميلة، التي غنت الورد وعشاقه..
باقة بين يديه.. وقفت من بعيد أرقبه، وهو منصرف إليها.. يقطِّعها.. لم تكن طفيلية من أعشاب كما خلتها أول النظر، بل كانت – وأنا أقترب رويداً – غٌريسات يعِدُّها للزراعة.. يستنبتها، لتضوع عطراً وجمالاً.
قلت له ” صباح فخري الله يرحمو غنى الفل والياسمين والورد.. أبو حسن اش بيغني”؟ قال لي “ما بعرف”.. قلت له “بتعرف”.. فقال مبتسماً “الورد جميل” و”الحياة حلوة بس نفهمها”.
كثيراً ما كنت أزوره السنوات العشر الماضيات.. سر غريب يحمل خطاي إلى ذلك المكان.. أهي تلك الشجيرات الوليدة، أم هاتيك الورود المتفتحة، أم لعلي كنت آنس بذاك الأمل، الذي تطفح به السمراء جبهته، وقسمات السنين يسري في العيون وما التف من العروق.
أكثر من أربعين عاماً في مشتله هذا، وقبلها حوالي عشرين عاماً متنقلاً بين الجنائن الأولى.. “والورد مخيم علينا”.. حكاية للحب والحياة يرويها “”أبو حسن ديمان” ابن الثامنة والسبعين عاماً.
لم يكتف أبو حسن بأن يشتري الورد ويبيع، إنما كان حلمه أن يصير منتجاً للشتلات المختلفة، بدلاً من أن نستورد من بلاد الزهور.. بكل الصدق والعفوية يقول: “الواحد لازم يكون منتج لأرضو وخلقو وبلدو”.. “الإنتاج بدك تحبو لحتى يحبك لانو وقت بتحبو بدك تسقيه وترويه وتعتني فيّو، وهوّ رح يردلك بالأحسن، ويعطيك”.. وكان له ما أراد..
أكثر من أربعمئة نوع في هذا المشتل.. كلها من انتاج “ابو حسن” من حمضيات ولوزيات وحراجيات ومزروعات منزلية من فل وياسمين وجوري ومانوليا وكاردينيا وحوليات.
عندما سألته عن علاقته بها دمعت عيناه وقال: “إنها عشرة عمر.. ومتل قيس وليلى حلمي اليومي أن يطلع النهار لأعود إليها في الصباح”.. أي حالة عشق يحياها أبوحسن.
سألته لم كل هذا الحب قال لا أعرف.. من الله.. وفي الحب.. ما من سؤال.
تابعت ممازحاً ومن هي ليلاك؟ قال أم حسن.. أناديها حبيبتي منذ خمسة وخمسين عاماً.. قلت لعلك نسيت اسمها.. ضحك وقال اعوذ بالله لا.. لم أنسى “اسمها ولا كسمها”
يؤدي صلاة الفجر، ومن ثم إلى مشتله.. وكثيراً ما يؤديها – واجب الشكر لله – في المشتل.. شاكراً ربه وحامداً له على ما اعطاه وانعم عليه، وأجرى على يديه بلسم غصن أو جذر وساق ظنه الناس حطباً يابساً.
يومياً يطوف بها.. يسلم على مزروعات المشتل كلها.. إن كان هناك من وردة ذبلى، يقبِّلها ويعتذر منها.. تخنقه العبرة من جديد.. أؤنب نفسي ” ليه انا نسيتها.. ليه ما سقيتها”.
سألته ما الذي تعلمت من عملك في الزرع قال.. “الصبر والأناة والمحبة والإخلاص والعطاء”.. سنين طويلة حصد أبو حسن خلالها مراتب أولى في كثير من المعارض المحلية والعربية والدولية.
هل هناك يد خضراء وأخرى غير ذلك؟ قال “نعم لأن الورد يميز بين من يزرع بقلبه عن الذي يزرع بيديه”.. “اسال الناس بيقلولك انا بستمتع بمنظر الزهور… أما انا.. فانا معجون بها”.
وبعد أن اقتربنا من أصصها، قلت له: هذه تسمى قلب عبد الوهاب، ماذا عن قلب “أبو حسن”.. قال “قلبي هو الورد الأبيض لأن الأبيض لون الصفاء”.
في كل أصيص و”تنكة زرع”، كنت أرى تلك الخلطة المقدسة.. تراب وبذرة وماء، والشمس والهواء.. كنت أراها لقيا الأرض، وما بينهما، والسماء.. “الجلسة عندك ساحرة وفطريتك النقية وطيبتك وحديثك لا يمل منه ولا يكتفى”.
أرتشف الثمالة المتبقية في كأس الشاي، يعز علي أن تتركها أصابعي إلا لتصافح “أبو حسن” مودعة، لعلي أعرف سر أداة النداء، لعاشقة الورد، وبِدَع الورد، و وردة الحب الصافي.. سأسأل عنها خولي الورد وأسأل وديع.. جنات ع مد النظر.. على طريقته يغنيها أبو حسن “منتوراً ومسكاً وريحاناً”.