زيارة الرئيس الشرع إلى موسكو: ضرورة استراتيجية لا ترفاً دبلوماسياً

العميد أحمد الحمادة..

أثارت زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى موسكو موجةً من الجدل في الشارع السوري، بين من استقبلها بالانفعال العاطفي ومن تعامل معها من زاوية السياسة وميزان المصالح. ولا غرابة في هذا التباين، في بلدٍ أنهكته الحرب وأربكته تحالفات متقلبة، وما زال أبناؤه يتحسسون الخطى وسط واقع تتشابك به المصالح الدولية
و لكن، بين العاطفة الجريحة والمنطق السياسي، تبرز الحاجة إلى قراءة هذه الزيارة ضمن سياقها الواقعي والمصالح العليا للدولة السورية الجديدة التي تسعى لبناء توازنات جديدة قائمة على تغليب المصالح لا من خلال انفعالات لاتبني وطناً، فالوقوف على الأطلال وقرض الأشعار يجب تركها خارجاً. فالمشاعر الشعبية مفهومة ومشروعة، وتعكس قلقًا وطنيًا عميقًا. غير أن إدارة الدول لا تقوم على العواطف والأمنيات ولا تُبنى السياسات على العواطف مهما كان صادقًة، فالسياسة في جوهرها، هي علم المصالح ولغة جعل المستحيل ممكناً وهذا مايعمل عليه الرئيس الشرع. فما يحرك معادلات القوة والتوازن هي المصالح المتبادلة، وهذا ما قامت عليه سياسات مابعد الحروب في أوربا والحروب الإستعمارية، كذلك رغم فعاليةالوجدانيات والرمزيات والعواطف.
وعلى هذا جاءت زيارة الرئيس الشرع إلى موسكو، فهي لا تندرج في إطار الترف الدبلوماسي والسياسي، بل تُعد استحقاقًا سياسيًا هاماً واستراتيجيًا، تفرضه طبيعة المرحلة وتشابك الملفات الداخلية والخارجية، وخاصة ما يتعلق بالجولان السوري الذي تحتل إسرائيل أجزاء منه وتنتهك الاتفاقيات المبرمة عام 1974 .
فالزيارة تأتي في لحظة تاريخية حرجة على الصعيد الإقليمي، تشهد تصاعدًا في الاعتداءات والتوغلات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية، وسط صمت دولي غير مبرر وخلل واضح في ميزان القوة لصالح إسرائيل المدعومة أمريكياً. فإسرائيل تسعى لإبقاء سورية ساحة مفتوحة.
وموسكو هي من القوى القليلة القادرة على لعب دور حقيقي في تهدئة هذا التصعيد أو على الأقل ضبط إيقاعه، ليس لأنها “نصيرة للشعب السوري المظلوم، بل لأنها تمتلك أدوات تفاهم مع الأطراف الفاعلة كتل أبيب والولايات المتحدة ، وهذا ما قد يتيح لها ممارسة دور فاعل في الجنوب السوري.
وهنا لا نتحدث عن حل جذري بل عن فرص لتثبيت معادلة توازن تمنع الانزلاق نحو مواجهات أوسع أو فراغات تستغلها أطراف معادية لسوريا التي تسعى لخوض معركة البناء وإعادة الإعمار ومن بين أولويات الزيارة والملفات المفتوحة
الحديث مع موسكو حول ملف “المجرم الفار ومَن معه – وهذا حق مشروع – يجب أن يبقى مطروحاً وكذلك رموز مجرمي النظام السابق. فالمصلحة الوطنية تفرض أن تتضمن ملفات الدعم اقتصادي والتقني وتعزيز القدرات العسكرية، علماً بأن معظم التسليح كان شرقي، وروسي بالأخص. فتعزيز الدفاع الجوي لمواجهة العدوان الإسرائيلي بات ضرورياً في ظل إستمرار العدوان الإسرائيلي .وروسيا معروفة بمهارتها في عقد الصفقات لكنها لا تدخل في مواجهات أو التزامات مجانية. فالواقعية تقتضي العمل على ما هو ممكن، وفتح نوافذ تفاهم تحفظ المصالح المشتركة على أساس الحفاظ على السيادة السورية، لا على التبعية التي كانت سياسة نظام البائد .
فإن زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى موسكو ليست خروجاً عن الإرادة الشعبية ولا هي تفريط في الحقوق، بل مقاربة عقلانية في لحظة لا تحتمل التمنّع ولا الجمود. فهي تحرك في إطار سياسة الممكن، والإستثمار في علاقة قد تتيح لسوريامجالاً أوسع للحركة.
فموسكو قد لا تقدم كل ما نطمح إليه، لكنها تبقى شريكًا ثقيل الوزن وتتمتع بوجود دولي فاعل وتتمتع بصوت “الفيتو” فيمكن أن تكون عامل استقرار وتوازن في المشهد الإقليمي.
فالحديث اليوم ليس عن جدوى الزيارة بل عن قدرتنا على إدارتها بوعي وحنكة. فهل تكون هذه الزيارة بداية لمرحلة جديدة من التموضع السياسي ؟ أما الآن، فهي بكل المقاييس خطوة ضرورية واقعية لابد منها … وليست ترفًا دبلوماسيًا.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار