بقلم: الدكتور ربيع حسن كوكة
عندما أتحدث عن الباحث الأستاذ محمد حسن قجة فأنا أتحدثُ عن ذاكِرة ثرية لمدينتي حلب الشهباء.
الأستاذ محمد قجة ذلك الشخص اللبق الوقور الذي عرفته منذ عقود، باحِثاً ومؤرخاً، صديقاً وإنساناً.
يغادرُنا اليوم الأربعاء التاسع من شهر شوال الموافق للسابع عشر من شهر نيسان الجاري.
جمعتني به الحياة في مفاصل كثيرةٍ ومواقف عديدةٍ، فمن جمعية العاديات العتيقة، إلى صحيفة الجماهير العريقة، إلى تظاهرة “حلب عاصمة الثقافة الإسلامية”، وقد اتحفني بمقدمةٍ لكتابٍ ألفته هو “النبع الغزير في ترجمة الشيخ جاكير” وامتدت الصلة بيننا إلى آخر أيام حياته.
محمد قجة، المولود في مدينة حلب الشهباء في السادس من شهر ذي القعدة من سنة (١٣٥٨) هجرية الموافق للسابع عشر من شهر كانون الأول لعام (١٩٣٩م).
نشأ في أسرة حلبية عريقة سكنت في «حي قارلق» الشعبي، ووالده كان من تجار «جادة الخندق» يبيع المواد الأولية للبناء، إضافة إلى محبته للعلم والعلماء، وقد حرص على تعليم ابنه محمد وتحفيظه القرآن الكريم في السنوات الأولى من عمره مع تحفيزه على حضور الزاوية الهلالية، مما بنى في ذات فقيدنا صروح الروحانية ومحبة الخير والجمال.
كان التكوين المعرفي للأستاذ الباحث محمد قجّة ثرياً جداً، وقد امتلك مكتبةً نمّاها عبر سنين حياته ليصل حجمها لاحقاً إلى أكثر من ثلاثة عشر ألف كتاباً في التاريخ والفلسفة والعلوم الإنسانية المختلفة.
بدأ بكتابة الشعر مُبكراً في أثناء دراسته للمرحلة الإبتدائية وتابع تعليمه الثانوي في مدارس حلب قبل أن يتوجّه إلى دمشق حيث نال الإجازة في اللغة العربية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة دمشق سنة (١٩٦٣م). وحصل على الترتيب الأول ضمن الدفعة.
سافر بعد ذلك إلى الجزائر حيث نال ماجستيراً في تاريخ الأندلس.
بعد تخرجه قام الأستاذ “قجة” بتدريس مادة اللغة العربية في مدارس «الباب» و«المعري»، وسمي مديراً «لثانوية المأمون» -التي كان طالباً فيها، ونظراً لمكانة تلك المدرسة، أصدر عنها كتاباً توثيقياً بمناسبة مرور خمس وسبعين عاماً على تأسيسها.
سافر الباحث ” قجة ” إلى شتى أنحاء بلدان العالم في مهام أدبية وعلمية وترأس الكثير من المؤتمرات والندوات، وفي سجله مئات الأوسمة وشهادات التقدير والتكريمات وآخرها من رئاسة الجمهورية العربية السورية.
انتسب لجمعية «العاديات» المتخصصة بالبحوث التاريخية والأثرية، وفاز بمنصب الرئاسة في عام (١٩٩٤م) وعمل على دعم وتنشيط الجمعية في مختلف الجوانب، وحرص على إصدار كتاب ومجلة فصلية عن نشاط الجمعية وتنظيم ندوات وحفلات موسيقية، اهتمت بتوثيق التراث الحلبي، والقيام برحلات داخلية وخارجية للمواقع الأثرية مع إقامة المحاضرات الأسبوعية بالتعاون مع «جامعة حلب» وبقي فيها ربع قرن من الزمان، حتى عام( ٢٠١٩م)، ومع انتهاء مهامه منها تمت تسميته الرئيس الفخري لجمعية العاديات مدى الحياة.
وعندما اختيرت مدينة حلب في عام (٢٠٠٦م) عاصمة الثقافة الإسلامية، تمت تسمية الباحث “قجة” أميناً عاماً لتلك الفعالية.
كما عُين مستشاراً لمنظمة اليونسكو في «سورية» لشؤون التراث اللا مادي عام(٢٠١٠م)، ورئيس تحرير للجنة السجل الوطني للتراث الثقافي، وكذلك رئيساً لتحرير مجلة التراث، وعضواً بلجنة ترميم الجامع الأموي بمدينة «حلب».
كتب الأستاذ «محمد قجة» ثلاثاً وعشرين كتاباً من أبرزها كتاب بعنوان «حلب مطلع القرن العشرين» وكتاب «دمشق في عيون الشعراء»، و«القدس في عيون الشعراء»، وله أربعة عشر مؤلفاً بالتعاون مع أدباء آخرين، وكتب أحد عشر نصاً مسرحياً. ونشرت أغلب الصحف المحلية والعربية دراساته النقدية والأدبية والتي يقدر عددها بثمانمئة دراسة، وألقى أكثر من ثلاثمئة محاضرة في الأدب والتاريخ والتراث على المنابر المحلية والعالمية.
فيا أيها الباحث العملاق، يا فارس التراث وعاشق الشهباء رحمك الله وأسكنك فسيح جناته.