بقلم || حميدي هلال …
في زاوية من زوايا الوطن الموجوع، حيث تتشابك خيوط الحياة بين أنقاض الأمل وشظايا الواقع، بدأت حكايتنا.
كنتُ يومًا موظفاً يقبض راتبًا متواضعًا من حكومة كانت تزن الزمن بميزان الخوف والقهر، في ذلك الوقت، كان في البيت طفلان فقط، يلعبان ويضحكان دون أن يدركا أن العالم حولهما بدأ يتشقق.
كنا نتبادل أنا وأم العيال النظرات الحادة كالسيوف، وكلماتها كانت دائماً: “يا رجل، كيف تأكل من خزينة الظالمين وتنام قرير العين؟” وأردّ أنا، بصوتٍ يحمل بعض العناد وبعض السخرية: “وأنتِ يا أم العيال، هل كنتِ تطبخين لنا من عرق جبينك أم من نفس الخزينة التي تشتمينها؟” فتشتعل العيون ويبدأ النزاع.
بعد سنواتٍ من الجدل والصراخ والتناسل، وبعد التحرر من ذاك النظام المهزوم، أم العيال، تلك المرأة التي كانت يوماً نجمةَ حياتي، تلك الروح الصلبة التي تحمل في صدرها نار الرفض، صارت تصنّفني بين “المكوعين”، أولئك الذين ارتبطوا في نظرها بسلاسل النظام السابق.
والعيال أصبحوا تسعةً، كأن الحياة قررت أن تعاقبني بجيشٍ صغيرٍ لا يعرف من الدنيا سوى أن الأب “مكوع” والأم ترى نفسها قائدة ثورةٍ منزلية.
الأولاد، تلك الكائنات التي كبرت كالفطر بعد المطر، انقسموا كما تنقسم الأحزاب في بلدٍ يبحث عن هويته. ثلاثةٌ منهم، الأقرب إلى قلبي، وقفوا إلى جانبي، يرددون كالببغاوات: “أبونا كان على حق، لازم نعيش!” بينما الستة الباقون، أتباع أمهم، ينظرون إليّ كأنني خائنٌ هرب من ساحة المعركة.
حتى طاولة الطعام، تلك المنصة المقدسة التي كانت تجمعنا، صارت ساحة حربٍ باردة. “مرر لي الملح يا مكوع!” يقول أحدهم، فيرد عليه آخر: “خذه بنفسك يا ثورجي!”
حاولتُ أن أجمع شتاتنا، دعوتُ إلى جلساتٍ عائليةٍ كأنني رئيس دولةٍ يبحث عن مصالحةٍ وطنية. جلستُ وأم العيال على طرفي الطاولة، والأولاد كالنواب المتناحرين. “يا جماعة، خلونا نتحاور، البيت مش ناقص انقسام!” أقول بصوتٍ يحاول أن يكون حازماً. فترد أم العيال: “تحاور؟ أنتَ اللي بدأت الحرب لما اخترت راتبك على كرامتنا!” ويصيح أحد الأولاد: “بس أنا مع أبوي، الجوع ما بيفهم كرامة!” ثم يرد آخر: “وأنا مع أمي، اللي يسكت على الظلم يستاهل اللي يجيه!”
بعد نقاشاتٍ طويلة، تنازلتُ عن بعض مواقفي، وأم العيال ألقت ببعض تنازلاتها كالقنبس للطيور.
اتفقنا أن نحافظ على الكيان الأسري، ليس ضعفًا، بل خوفًا من أن يتحول الخلاف إلى طلاق يهدم كيان الأسرة، كما هُدمت أحياء ومدن في وطننا. اتفقنا أنا وهي، بعد عناء، على هدنة هشة، لكن الأبناء ظلوا في خندقهم، منقسمين كأمة صغيرة تعيش حربها الخاصة.
كلما حاولتُ أن أفتح حواراً جديداً، ينتهي الأمر بصراخٍ أو بصمتٍ ثقيلٍ يخنق الجدران.
تسعة أطفالٍ وأمهم، تساءلت: هل نحن أسرةٌ أم دولةٌ صغيرةٌ تعيش حروبها الخاصة؟ ربما كنا مجرد مرآةٍ للوطن الكبير، حيث الانقسام يأكل القلوب، والحوارات تُضيَّع كما تُضيَّع الوعود. ومع ذلك، بقيتُ أتمسك بخيطٍ رفيعٍ من الأمل، لأن البيت، كالوطن، مهما تصدّع، يظل آخر الملاجئ في زمنٍ ضاقت فيه كل الدروب.
كنتُ أمنحهم فرص الحوار، أناديهم إلى طاولة واحدة، لكن كلماتهم كانت كالرصاص المتناثر، لا تجد هدفًا سوى إيذاء الآخر. لم يتقبلوا بعضهم، كأن كل واحد منهم يحمل راية مختلفة، راية لا تقبل التوحد تحت سقف واحد.
وبقينا مشتتين، كأسرة تحمل في داخلها صورة مصغرة لسوريا الكبرى: أرض مزقتها الخلافات، وأناس أنهكتهم الانقسامات، وأحلام ضاعت بين أصوات الصراخ وصمت اليأس.
وقفتُ أنظر إلى أبنائي وهم نيام، وتساءلت: هل سيأتي يوم يجتمعون فيه على قلب واحد؟ أم أن الشقاق الذي زرعه النظام الآفل سيظل يلاحقهم، كما يلاحق وطنًا أرهقه التاريخ؟ لم أجد جوابًا، سوى أنني ما زلت أحلم بصباح يعود فيه الدفء إلى بيتنا، كما كنتُ أحلم يومًا بعودته إلى شوارع دمشق وحلب والرقة.