الهيئة الوطنية للعدالةُ الانتقاليةُ و المواطنة المتساوية

مصطفى دناور ….
بعدَ سنواتٍ من المعاناةِ والآلام جاءَ الإعلانُ عن تشكيلِ لهيئةِ الوطنيةِ للعدالةِ الانتقاليةِ خطوةً جوهريةً في مسارِ استعادةِ الحقوقِ المسلوبةِ وكشفِ الحقيقةِ وإرساءِ أسسِ العدالةِ. إنَّ هذا الإعلانَ لم يكن مجردَ قرارٍ إداريٍّ بل هو نقطةُ تحوُّلٍ تعكسُ إصرارَ السوريينَ على بناءِ دولةٍ قائمةٍ على سيادةِ القانونِ والمواطنةِ المتساويةِ بعدَ عقودٍ من الاستبدادِ والقمعِ.

منذُ انطلاقِ الحراكِ الشعبيِّ واجهَ السوريونَ انتهاكاتٍ جسيمةً كادتْ أن تمحوَ الأملَ في العدالةِ لكنَّ صمودَ الشعبِ وإرادتَهُ الحرةَ قادَ البلادَ إلى هذه اللحظةِ الحاسمةِ. إنَّ كشفَ الحقيقةِ ليس مجردَ سردٍ للأحداثِ الماضيةِ بل هو حقٌّ مقدسٌ للضحايا يمنحُهم الاعترافَ بمعاناتِهم، ويضعُ حدًّا لمحاولاتِ إنكارِ الجرائمِ أو طمسِ التاريخِ.
بينَ المطالبةِ بالعدالةِ والخوفِ من الانزلاقِ إلى الانتقامِ يأتي دورُ الهيئةِ الوطنيةِ في تحقيقِ المساءلةِ القانونيةِ وفقَ أسسٍ نزيهةٍ وشفافةٍ لضمانِ أنَّ المسؤولينَ عن الجرائمِ لن يفلتوا من العقابِ دونَ أن يتحوَّلَ المسارُ إلى تصفيةِ حساباتٍ أو صراعاتٍ جديدةٍ. إنَّ تحقيقَ العدالةِ الانتقاليةِ يتطلبُ قضاءً مستقلًّا وجهودًا منهجيةً لإعادةِ بناءِ ثقةِ السوريينَ في المنظومةِ القانونيةِ بعيدًا عن المزايداتِ السياسيةِ.
إنصافُ الضحايا ليس مجردَ تعويضٍ ماديٍّ بل يشملُ إعادةَ الاعتبارِ لهم ولمعاناتِهم ومعالجةَ الآثارِ النفسيةِ والاجتماعيةِ التي خلفتْها سنواتُ القمعِ والتنكيلِ. فلا يمكنُ للجرحِ السوريِّ أن يندملَ إلا عندما يشعرُ الضحايا بأنَّهم حصلوا على حقِّهم في العدالةِ وأنَّ صوتَهم لم يذهبْ هباءً وأنَّ تضحياتِهم لم تكنْ دونَ جدوى.
لا شكَّ أنَّ تحقيقَ مصالحةٍ وطنيةٍ حقيقيةٍ يتطلبُ جهودًا جبارةً تتجاوزُ الخطاباتِ الرسميةَ لتصلَ إلى عمقِ المجتمعِ السوريِّ حيثُ يجبُ أن تُبنى هذه المصالحةُ على
العدالةِ والشفافيةِ وليس على النسيانِ أو تجاوزِ الحقوقِ. فالصفحُ بلا مساءلةٍ هو وهم  أما المصالحةُ المبنيةُ على كشفِ الحقيقةِ وجبرِ الضررِ فهي الأساسُ المتينُ لنهضةٍ وطنيةٍ شاملةٍ.
رغمَ التحدياتِ الضخمةِ التي تواجهُ مسارَ العدالةِ الانتقاليةِ في سوريا فإنَّ تأسيسَ هيئةٍ مستقلةٍ ذاتِ صلاحياتٍ واضحةٍ يمثلُ خطوةً نوعيةً، لا سيما معَ وجودِ دعمٍ رسميٍّ وشعبيٍّ لهذا التوجّهِ.
إنَّ مستقبلَ سوريا اليوم مرهونٌ بقدرتِها على مواجهةِ ماضيها بشجاعةٍ عبرَ مسارٍ يوازنُ بينَ كشفِ الحقيقةِ وإنصافِ الضحايا وبينَ المساءلةِ والمصالحةِ وصولًا إلى وطنٍ يتجاوزُ الظلمَ ويؤسِّسُ لسلامٍ حقيقيٍّ مستدامٍ.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار