بقلم: محمد أحمد مهنا..
تسابقت لهفة خالَجَت الضلوع مع نظرات ترقُّبٍ في شوارعَ قطعَتْها سيارةٌ أقلَّتنا من تركيا إلى حلب. أتطلَّع إلى المدينة التي وُلدتُ وترعرعتُ فيها، وشهدتُ فيها سِفْرًا من التاريخ يطول الحديث عنه… خواطر كثيرة خالجتني وجذبتني بشدة إلى ما قبل أحدَ عشرَ عامًا، حينما كنا ننظر إلى أبواب الموت وهي تفتح مع البراميل المتفجرة التي كان نظام الأسد يمطر بها حيَّ بستان القصر صباح مساء… مشاهد حفرت في نفوسنا ذكريات لا تنسى، ومعاناة رافقتنا لسنوات، كحال السوريين الذين جمعوا كل ما تبقى من إنسانيتهم ليهربوا بها وسط خذلان وعجز يقتل الروح قبل الجسد، كحال الغزيين اليوم وهم يُتركون فريسة لمجرمي العصر الذين يظهرون بربطات عنق ويتشدقون بقيم الحضارة والديمقراطية.. كأننا والغزيين أقرب ما نكون اليوم لبعضنا؛ نحن أمسهم وسنكون حاضرهم مع النصر والتمكين.
ذكريات عادت بي وأنا أتجول في مدينة قامت من الموت مرات ومرات بجهود أبنائها المخلصين، لكن ترك الموت أثرًا لا يُمحى في بيوتها وأسواقها وآثارها ووجوه سكانها. تسترق الأنفاس اليوم من بين عوادم المولِّدات وخيوط أسلاك العنكبوت وصراخ الباعة الذي لا ينتهي ومحنة اقتصادية طاحنة.
أكبر مدينة سورية وأكثر مدينة مدمرة وأكبر تجمع سكاني بدَت اليوم تشق طريقها إلى حرية طال انتظارها، دفعَت ثمنها غاليًا قبل عقود منذ الثمانينيات، حينما انتفض الشعب في وجه الطغمة الممثلة بعائلة الأسد ومَن والاها والمنتفعين من تجار وصناعيين وأشباه مثقفين وممثلين. لكن كان الانكسار الأول مؤلماً، دخلت المدينة إثره -كما سوريا- في عقود من الذل والهوان وخروج من الحضارة والتاريخ، وشعارات فارغة مقيتة ترفع ليل نهار يجترها الإعلام والطلاب والساسة في كذبة كبرى يتم تداولها، ولكن يعلم الجميع أنها دجل صرف لإضفاء شرعية على المجرمين واللصوص والفاسدين.
كان التحرير لحظة انتصار التاريخ والحضارة على عصور الظلم والظلمات والقهر والفساد، وعاد الحق لأهله ورجعت سوريا لأصحابها الحقيقيين “دمشق لنا إلى يوم القيامة”. لن يكسر هذا الحلم ولن يُخدع الشعب مرة أخرى لأن وراءه سيل من تضحيات وشهداء ومجازر وسجون ومقابر جماعية وتعذيب وتهميش وفساد وإفساد وضياع للهوية والثقافة.
حلب تنتفض من الرماد مرة أخرى وسط تحديات أمنية وخدمية، لكن ربما التحدي الأكبر هو التحدي الثقافي، وهو الانسلاخ من الحقبة الأسدية السوداء بشعاراتها ومفرداتها الفاسدة والشعور بالدونية والاستلاب الحضاري، من أجل ترسيخ ثقافة وطنية قائمة على الاعتزاز بالنفس والقيم وبناء جيل إيجابي يسعى للريادة والمبادرة. فهذا تحرير حلب -كما سوريا- حلم تحقق بتقدير رباني، ما كنا نجرؤ حتى على التفكير به ناهيك عن التصريح به أو إظهاره، فمن واجبنا اليوم أن نتمسك بحلمنا ونعيشه واقعًا جميلاً حلواً كما هو وجه سوريا الجميل.
#صحيفة_الجماهير