بقلم؛ بلال محمد الشيخ ..
في لحظة تاريخية تتقاطع فيها الجغرافيا مع العقيدة، وتتنازع فيها الشعارات مع المصالح، تبرز الحاجة إلى خطاب تأصيلي يعيد الاعتبار للعقل السياسي الإسلامي، ويحرر أدواته من أسر التوظيف العاطفي أو التحريمي غير المؤصّل.
لقد مارس النبي ﷺ التفاوض مع الخصوم، لا بوصفه ضعفًا، بل باعتباره فنًا من فنون إدارة الصراع، ووسيلة لتحقيق مقاصد عليا تتجاوز اللحظة إلى بناء الأمة.
وفي ظل الجدل الدائر حول مشروعية التفاوض مع إسرائيل، لا سيما في الحالة السورية، يصبح من الضروري إعادة قراءة النصوص والسيرة، وتفكيك الخطاب الرافض للتفاوض، الذي غالبًا ما يُبنى على خلط بين الوسائل والمقاصد، وبين الثوابت والمتغيرات.
أولًا: التفاوض كأداة سياسية شرعية
التفاوض ليس نقيضًا للجهاد، بل هو أحد أدواته.
وقد أقرّ القرآن الكريم مبدأ الحوار حتى مع الأعداء، كما في قوله تعالى:
﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ [الأنفال: 61]،
وقوله:
﴿فَصَفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ﴾ [الزخرف: 89].
في الفكر السياسي الإسلامي، التفاوض يُكيّف وفق قاعدة المصلحة المرسلة، ودرء المفاسد، وجلب المصالح، وهي قواعد أصولية تُعتمد في بناء القرار السياسي، لا سيما في حالات الحرب، الاحتلال، أو التهديد الوجودي.
وقد أشار الإمام الجويني إلى أن “السياسة الشرعية لا تُقاس على العبادات، بل تُبنى على المصلحة، وتُدار بالحكمة” (غياث الأمم، ص 112).
ثانيًا: نماذج نبوية في التفاوض السياسي
1. صلح الحديبية: التفاوض تحت الضغط العسكري
رغم أن قريش كانت في موقع القوة، جلس النبي ﷺ معهم، وقبل شروطًا ظاهرها مجحف، منها تأجيل العمرة، وعدم ردّ من أسلم من قريش.
لكن هذا الصلح مهّد لفتح مكة، ووسّع دائرة الدعوة، وأثبت أن التفاوض لا يُقاس بنتائجه الفورية، بل بمآلاته الاستراتيجية.
2. وثيقة المدينة: التعايش السياسي مع الخصوم
نظّم النبي ﷺ العلاقة مع اليهود والمشركين في المدينة، عبر عقد اجتماعي يضمن الحقوق والواجبات، ويؤسس لتحالف دفاعي مشترك.
هذا النموذج يُظهر أن التفاوض لا يعني التنازل، بل هو هندسة للعلاقات وفق موازين القوة والمصلحة.
3. مفاوضات ثقيف: التفاوض مع خصم مهزوم
بعد حصار الطائف، جاء وفد ثقيف يطلب شروطًا خاصة لدخول الإسلام، منها إسقاط الصلاة.
رفض النبي ﷺ التنازل عن الثوابت، لكنه قبل شروطًا إجرائية، وأمهلهم حتى أسلموا طوعًا.
وهنا يظهر الفرق بين الثابت العقائدي والمتغير السياسي.
ثالثًا: تفكيك الخطاب الرافض للتفاوض
الخطاب الرافض للتفاوض مع العدو غالبًا ما يُبنى على:
– الخلط بين التفاوض والموالاة: في حين أن الموالاة المحرّمة هي النصرة القلبية والانحياز العقائدي، فإن التفاوض هو أداة سياسية لا تقتضي الاعتراف بشرعية العدو.
– الاستناد إلى العاطفة بدل النصوص: كثير من الرافضين يستندون إلى مشاعر الغضب أو الكرامة، دون تأصيل فقهي أو استقراء للسيرة.
– التحريم المطلق دون تكييف سياقي: وهو ما يخالف قواعد الفقه السياسي، التي تُراعي الزمان والمكان والمصلحة.
وقد بيّن الإمام ابن القيم أن “السياسة الشرعية هي ما وافق الحق والعدل، وإن لم يرد فيه نص خاص” (الطرق الحكمية، ص13).
رابعًا: التفاوض مع إسرائيل في السياق السوري
في الحالة السورية، التفاوض مع إسرائيل لا يعني التطبيع، بل هو أداة سياسية يمكن استخدامها ضمن ضوابط شرعية ووطنية، لتحقيق أهداف مثل:
– استعادة الأرض المحتلة (الجولان).
– حماية المدنيين من التصعيد العسكري.
– تحصين الموقف السوري في المحافل الدولية.
– كسر العزلة السياسية دون التنازل عن الثوابت.
إن رفض التفاوض مطلقًا يُفقد سوريا أدوات الضغط، ويُبقيها في موقع رد الفعل، بدل أن تكون فاعلًا في صياغة المعادلة الإقليمية.
وقد تفاوضت دول عربية مع إسرائيل، مثل مصر والأردن، دون أن يُعد ذلك خيانة، بل كان جزءًا من إدارة الصراع وفق موازين القوة والمصلحة.
خامسًا: التفاوض كأداة مقاومة لا خضوع
التفاوض لا يُستخدم فقط في حالات الضعف، بل قد يكون أداة مقاومة، حين يُوظّف لانتزاع مكاسب، أو كشف العدو، أو كسب الوقت لبناء القوة الذاتية.
وقد استخدمته حركات تحرر عالمية، مثل منظمة التحرير الفلسطينية، وحزب المؤتمر في جنوب أفريقيا، دون أن تتنازل عن أهدافها.
في السياق السوري، يمكن للتفاوض أن يكون جزءًا من استراتيجية مقاومة ذكية، تُراعي الواقع، وتُحافظ على الثوابت، وتُعيد الاعتبار للقرار الوطني المستقل.
سادسًا: في مواجهة الاتهام بالعمالة — تفكيك خطاب التخوين
إن اتهام أي حكومة بالتفريط أو العمالة لمجرد جلوسها على طاولة التفاوض مع خصم أو عدو، يُعدّ اختزالًا مخلًا بالواقع السياسي، وتبسيطًا يُغفل تعقيدات القرار السيادي.
فالتفاوض لا يُقاس بنيّة الخصم، بل بقدرة الطرف الوطني على تحويل الجلوس إلى مكسب، وعلى تحويل الضغط إلى فرصة.
في الحالة السورية، يُروّج بعض الخطابات الشعبوية لفكرة أن مجرد الحوار مع إسرائيل هو خيانة، متجاهلين أن التفاوض لا يعني التطبيع، ولا الاعتراف بشرعية الاحتلال، بل قد يكون وسيلة لاستعادة الأرض، أو حماية المدنيين، أو كسر العزلة السياسية.
وهذا الاتهام غالبًا ما يُبنى على خلفيات أيديولوجية أو مصالح إقليمية، لا على قراءة موضوعية للسياق السوري، الذي يفرض أدوات مرنة لإدارة الصراع دون التفريط بالثوابت.
وقد بيّن الفقهاء أن النية والمقصد هما معيار الحكم على الفعل السياسي، لا صورته الظاهرة.
قال الإمام العز بن عبد السلام:
“الوسائل تأخذ حكم المقاصد، فما كان وسيلة إلى خير فهو خير، وما كان وسيلة إلى شر فهو شر” (قواعد الأحكام، ج1).
إن الدولة التي تفاوض من موقع وطني، وبشروط تحفظ الحقوق، لا تُعد خائنة، بل تمارس حقها في إدارة الصراع، وتُعيد الاعتبار للقرار السيادي، بعيدًا عن التبعية أو الانفعال
خاتمة:
إن التفاوض مع العدو ليس نقيضًا للثبات، بل هو فنّ من فنون الصراع، يمارسه القوي حين يريد أن يحمي شعبه، ويصون أرضه، ويُبقي على جذوة الأمل مشتعلة.
وقد علّمنا رسول الله ﷺ أن الجلوس مع الخصم لا يعني الانكسار، بل قد يكون مقدمة للنصر، إذا أُحسن التوقيت، وصيغت الشروط، ورُعيَت المقاصد.
ليكن التفاوض جسرًا نحو الحق، لا مهادًا للباطل، وسلاحًا في يد الأمة، لا قيدًا على إرادتها.
#صحيفة_الجماهير