الجماهير – الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
لا ريب أن طُرُق الارتقاء بالنفس والمجتمع تتوالى ضمن سلسلةٍ منطقية عبر ثلاث خطوات تبدأ بالتعرف على الذات، الذي يُنتجُ التفكير المتجدد؛ والذي يدفع إلى العمل الخلّاق.
وإن أي أمرٍ في الحياة له جانبين أحدهما نظري والآخر عملي وفي الارتقاء بالنفس والمجتمع نلحظ هذين الجانبين أيضاً. أما الجانب العملي فيتمثّل بالعمل الدؤوب والمستمر لتحقيق النقلة النوعية المُراد تحقيقها.
أما الجانب النظري والذي يمثِّلُ الاحتياطي الفعّال لقدرات المرتقي، ومَصدر قوّته، وسبب ديمومته ودأبه في العمل، فيتمثَّل في عدَّة أمور أهمها الابتعاد عن الوهم وتحديد الهدف والسعي إليه ويرافق ذلك كله الإخلاص الذي يُعطي أي عمل قيمته الحقيقية.
الابتعاد عن الوهم: إن التفكير السليم شرطٌ أساسي للرقي بالفرد والمجتمع، وكم نرى في مجتمعنا أُناس بل وجماعات قيدوا أنفسهم بالأوهام فمنعهم ذلك القيد من التحرّك علاوةً على منعه إياهم من التقدم والرقي.
وكمثالٍ للقيد الوهمي نجدُ شخصاً يحصُر قدرته على ما يمارسه من الأعمال ويحكم على نفسه بأنه لا يستطيع أن يعمل غير ما اعتاد عليه دون تجربةٍ أو إرادة. فإن توقف عمله أو زالت أسبابه وجَدْتَهُ كالبئر المُعطَّلة؛ عاجزاً عن العمل يندُبُ حظَّه ويشتُمُ واقعه، أما إذا كان متوقِّد الفكر، متفتِّح الذهن فتَراه لا يعرف اليأس إليه سبيلا، يتكيّف مع المُحيط، ويخلُق لنفسِه فرصاً جديدة.
إن الوهم يجعل من صاحبه بعيداً عن إمكانياته على أرض الواقع، وهذا الوهم نفسه يسبب له الوهن الفكري والنفسي والاجتماعي مما يؤدي به إلى التراجع والتردد والحيرة.
تحديد الهدف والسعي إليه: يوجد كثير من الناس لا يستطيعون تحديد أهدافهم في هذه الحياة فتمرّ بهم الأيام والأعوام دون تحقيق هدف لأنهم لا يملكون هدفاً أصلاً؛ ولا أعني بالهدف تلك الأهداف الصغيرة اليومية والضرورية كالجائع الذي يريد أن يأكل ليشبع؛ والمريض الذي يريد الدواء ليشفى و … إنما نتحدّث عن أهداف الحياة الأعمق والأبعد والأكبر.
فمن الطبيعي للطالب مثلاً أن يضع لنفسه هدفاً هو التخرّج ثم هدفاً أبعد هو الدراسات العليا ثم هدفاً أبعد هو العمل في مكانٍ ما يريده. وكلما حصل على هدفٍ سعى للوصول إلى الآخر. وهذه الأهداف التي ربما تكون بعيدةً وكبيرةً نسبياً هي ضرورية لاستمرار الحياة وتطوّرها وارتقاءها. غير أن للإنسان هدفاً أبعد وأكبر هو محور هذه الحياة إنه الهدف من وجوده ورقيّه وتحضّره.
وإذا كان الفيلسوف الفرنسي رينه ديكارت (ت 1650م) قد رسم للحضارة الغربية هدفها الأسمى والذي هو: ( معرفة قوانين الطبيعة لكي يستطيع الإنسان السيطرة عليها).
فإن القيم والمبادئ الإسلامية بل والمسيحية أيضاً تجعل هدف الحضارة الغربية ذاك ثوباً جميلاً للهدف الحقيقي، تجعل منه جسراً للمرور إلى الغاية المرتجاة المتمثّلة بالهدف الأسمى الذي وُجِدَ الإنسان في هذا الكون من أجله إنه رضى الله تعالى.
وبعبارةٍ أدق نقول: إن حضارتنا جعلت من سائر الأعمال البشرية جسداً روحه ومُحرّكه الإخلاص لله تعالى وغايته وهدفه الأعلى والأمثل هو مرضاة الله سبحانه.
فالطبيب عندما يعالج المرضى يكون قد حقق هدفه القريب غير أنه يسمو ويحقق الهدف البعيد عندما يكون قصده من طبِّه مرضاة الله تعالى، والمعلم عندما يقوم بعمله التعليمي والتربوي للأجيال يكون قد حقق هدفه القريب غير أنه يسمو ويحقق الهدف البعيد عندما يكون قصده من تعليمه مرضاة الله تعالى وهكذا الأمر في كلِّ ممارسة.
توجد أهداف نسعى إليها ولكن الروح التي تُحرّكنا وتدفعنا للوصول إلى تلك الأهداف هي ذلك الإخلاص لمن أوجدنا في هذا الكون سبحانه، الذي بيده مقاليد الأمور يسيّرها كيف يشاء، وهو لن يبخل على المخلصين ليُحقق لهم الارتقاء الذي يريدونه من وراء أعمالهم المُفعمة بالإخلاص له وحده سبحانه.
لذلك نقرأ في الحديث النبوي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ) رواه الشيخان. فالنية التي جعلها صاحبها خالصة لله هي التي تساعده على تحقيق هدفه البعيد واستمرارية ارتقائه لأهدافه القريبة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( طوبى للمخلصين أولئك مصابيح الهُدى تنجلي عنهم كلّ فتنةٍ ظلماء ) رواه أبو نُعيم في الحلية.
أحرى بنا فُرادى ومجتمعين أن نجعل هدفنا الأكبر في الحياة مرضاة الله وأن يكون الإخلاصُ رفيقنا في سعينا إلى سائر أهدافنا القريبة والبعيدة لنحقق الارتقاء ونجني ثماره الصالحة.
أخلص بفعلِكَ للرحمن واستقمِ …
يُفَجِّرُ القلبَ ينبوعاً من الحِكَمِ
وإن بقيتً بلا الإخلاص ترقُبُهُ …
تُلقى بِغَيِّكَ في بحرٍ من الندمِ
رقم العدد 15837