يكن ” للجماهير ” : ” أنا حلبي ومكوّنات المدينة جزء من تكويني النفسيّ والحياتي “

الجماهير – بيانكا ماضيّة
المكان الذي جلسنا فيه، اعتاد الفنان سعد يكن على ارتياده منذ زمن بعيد. هو (مطعم وانيس) أحد المطاعم المشهورة في مدينة حلب. الطاولة التي ألِفت جلوسه إليها تقع بالقرب من النافذة؛ للإطلالة على الشارع وللإمعان في حركة المارة. هناك يجلس في مكانه المعتاد؛ ليشعر بالراحة والألفة، يؤكد “يكن”: “ثبوتيّة المكان تُذهب توتره”! وكأن المكان يناديه بعد أن اعتاد على وجوده فيه؛ ليذهب توتره هو الآخر بعد أن لم يجد كل تلك الوجوه التي كانت تحتله.
في هذا المطعم يجالس أصدقاءه كما كان يفعل في مقهى “القصر”، على اختلاف الشخصيات التي كانت ترتاده، والموضوعات التي كانوا يناقشونها، إذ كان مقهى القصر ملتقى للأدباء والفنانين والشعراء والمثقفين والصحفيين، ولذلك شكّل جزءاً من وعيه ومن فنّه، حتى كاد المقهى موضوعاً بحد ذاته لدى “يكن” نجده في لوحات عديدة ..كراسيه وطاولاته وروّاده، وحالة وحركة الإنسان فيه.
هو أحد رواد حركة الفن المعاصر في سورية، ولقّب بالمايسترو مؤخراً إثر لوحات الأوركسترا والكونشيرتو التي عبّر فيها عن مشهديّة مسرحيّة لطالما شغلته منذ بداية مسيرته الفنية التشكيلية؛ فالمسرح بالنسبة لديه المكان المفضّل لمتابعة حركة الأشخاص، ولتثبيت اللحظة، ولكن للوحاته “بعداً مختلفاً، فالمشهد المسرحي حالة ترقى اللوحة بتشكيلها له إذ هي تقدم رؤية أعمق من المشهديّة” .
بين بيروت وحلب
يقيم حالياً في بيروت التي تشكل له “محطة حياتية لمتابعة إمكانية الرسم والتواصل مع العالم وهذا ما فقدته خلال الأزمة بحلب” هكذا يخبرنا عما تعنيه له بيروت بعد أن ترك حلب ذات يوم إثر خطفه مرتين من قبل عناصر إرهابية. نسأله عن تفاصيل هذا الخطف، فيقول: “لا أحب تذكّر هذه التفاصيل” ويبتسم، لعل في هذه الابتسامة سخرية ممّن حطّموا له لوحاته ومرسمه وسرقوا مكتبته، ومن ثم قاموا بخطفه بذريعة أنه يرسم البشر فيشوّه وجوههم.. ابتسامة تعكس حالة الاستهزاء من هذا الفكر العفن الذي ابتُليت به سورية والعالم كله. ثم يشعل “يكن” غليونه وينفث الدخان حوله في حركة لاتخلو أيضاً من الحركة المسرحيّة.
يزور مدينته حلب بين فترة وأخرى، حلب التي سيعود إليها يوماً ما، كما أكّد، فهي المدينة التي نشأ فيها، واستمدّ من مكوناتها الحضارية والثقافية والموسيقية موضوعات إبداعه، “أنا حلبي وهذه المكونات جزء من تكويني النفسي والحياتي”.
ولكن كيف يرى سعد يكن حلب اليوم؟! يقول:”صعبة ومختلفة تماماً، تبدو بحزن عميق وكأن جزءاً من داخلي انعدم، كما هي حالة الدمار الآن وحالة الإنسان في حلب”.حتى أن أعمال القلعة التي رسمها تجسّد حقيقةً هذه الحالة:”تجربة الإنسان الحلبي سواء أكان خراباً أم أزمة اجتماعية، تتجسّد في أعمال القلعة بكثافتها الدرامية”.

الحركة التشكيلية
نسأله عن رؤيته للحركة التشكيلية في سورية عامة وفي حلب خاصة، فيقول: “الحركة التشكيلية نشيطة بغض النظر عن المستوى، لأن هناك شباباً ظهروا نتيجة فراغ الساحة من الذين غادروا وهاجروا. والنشاط السوري فعال جداً رغم الصعوبات المادية التي يعاني منها الفنان من خلال تسويق اللوحة، لاشك أن هناك تجارب شبابية مهمة جداً وواعدة جداً على مستوى سورية والمنطقة، وفي حلب الحركة ضعيفة، هناك فنانون بقوا في المدينة ولكنهم توقفوا عن العمل بسبب الظروف وهم مهمون ونأمل أن يستعيدوا نشاطهم من خلال لوحاتهم وإبداعهم”.
علاقته بالموسيقا
بعض لوحاته تدلل على “حلبيّته” فلوحات صبري مدلل الفنان المحبّب لديه والذي كانت تربطه به علاقة الصداقة، نجدها بين أعماله، ولعل اللوحات التي تكون فيها الموسيقا العنصر البارز، أكان من خلال وجود آلة ما، أو مطرب ما، أو فرقة ما، تؤكد هذه العلاقة الوثيقة بينه وبين الموسيقا، “نتيجة وجودي ونشأتي في حلب كانت لي هذه العلاقة مع الموسيقا والطرب، فأنا من عشّاق صباح فخري ومحمد خيري وصبري مدلل” .
هي ليست علاقة وثيقة مع فناني ومطربي حلب وحسب، فمن يتابع موضوعات لوحاته يجد لوحة للسيدة (أم كلثوم) مع فرقتها، بمنديلها الأبيض الذي فرشه على عرض اللوحة، متطايراً في الهواء، ولوحات الأوركسترا التي يظهر فيها المايسترو متجسّداً في لحن بصري حتى لتكاد الألحان تصل إلى سمع المتلقي، “حركتي الداخلية أنقلها إلى اللوحة” هكذا يقول عن إظهاره الحركة الداخلية لشخوصه المرسومة.
الحزن الدفين
أغلب لوحاته التي تسيطر فيها الشخصيات، تشير إلى الحزن الدفين الكائن في روح الإنسان، ورغم هذا الحزن الداخلي، لايبدو “يكن” حزيناً، فالحزن تجده في وجوه تلك الشخصيات، ومن خلال تناوله حركتها الداخلية ينبثق أسلوب سعد يكن، هذا الأسلوب الذي تفرّد به، فصار أسلوبه الخاص المميز، أسلوب “يكن” الذي هو في حقيقة الأمر موقفه من الإنسان، لهذا لا يمكننا أن نرى وجوه الشخصيات فيما بعد بشكل آخر، لأن موقفه من الإنسان موقف ثابت لا يتغير.
الإنسان هو محور أعماله، ولهذا تناوله في موضوعات وعناوين محددة، الإنسان بأفكاره وأحزانه وأحلامه وانكساراته، يشتغل على أعماله تلك باحثاً منقّباً، متتبعاً خط الدراما البشرية، المآسي، والحالات الإنسانية الناجمة عنها، يقول: “آخر ثلاثين عاماً بدأت أختار مواضيع محددة لتناولها في معرض خاص مثل ملحمة جلجامش، نحو أيقونة حلبية حديثة، قضية العائلة الفلسطينية، الجدار، التحرر، موسيقا، معرض الفراشة، نساء وطوفان، ألف ليلة وليلة وغيرها”.

ولكن ماذا عن اللون؟! فرغم أن أغلب لوحات “يكن” تعتمد على الأحمر والأسود والأبيض، يقول: “ليس لدي مشكلة مع اللون، المشكلة الأساسية في أعمالي هي مع الشكل، ولذلك أتراوح بين الأسود والأبيض والملوّن وذلك يعتمد على الموضوع الذي أختاره للتعبير عنه في اللوحة”.
وينهي سعد يكن هذا الحوار بالقول: “غمامة من الحزن والأسى على إنسان المنطقة العربية التي نعيش فيها الآن تكوّن يومياتي بالرماديات التي أخشى أن تذهب بي إلى السواد”.
رقم العدد 15908

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار