الجماهير / محمود جنيد
أمر به يومياً، لأرمقه بنظرة شفقة “ع الماشي” وأقلب مع نفسي مواجع الواقع مهرطقاً متمتماً بصخب هلوسي شائك، ومتسائلاً في سريرتي، كيف يتدبر هذا ” المحتاج” أموره، بعد تأمين الجو و التأكد بأن حيز الهواء من حولي ليس له آذان مطبقة “مطرطقة” تختلس السمع إلى أنين ذاتي المشروخة، أتخيل بأضغاث حالمة بأنه( الهواء) وحده في هذه المدينة يتبع الإجراءات الاحترازية ويضع الكمامة على مصدر سمعه، بينما البقية غير مبالين.!
أصبح بالنسبة ليومي و أنا في طريقي إلى “الجريدة”، مثل فيروزيات الصباح، ركن مهم ألقي عليه التحية دون أحظى بالرد مرة .!، إنما نظرة غير مبالية تتبعها رشفة من فنجان “الأسبريسو” الكرتوني مترافق مع سحبة ” دخان عميقة يعبق فيها المكان لتدل على موطن تواجد صاحبها ” المنسي” ، وكأنه قطعة “أنتيكة” تتنفس ،رماها الزمان على حافة الرصيف متشحة سواد الواقع..
أخيراً تشجعت، و لبست طاقية “الطائي” بعد جردة حساب اطمأننت فيها على رصيدي من ثواب الصدقة، التي غلت الأيدي عنها إلا من رحم ربي وفي مواطن الرياء الفيسبوكي ” صورني و أنا عم اتصدق وارفع البوست”.!
فاجأني صاحبي ” من طرف واحد”، اعتذر بإيماءة عن قبول الورقة النقدية التي لم تعد تكفي لشراء رغيف خبز صالح للأكل، لم ينبس ببنت شفة ، أردت أن أسمع وجهة نظره “فضولاً”، قبل أن أتبين بأنه أبكم غير أصم، يفهم كلامي تماماً، ويوصل فكرته بوضوح ..كنت أنا ” المحتاج ” بحضرته بعد أن لقنني دراساً لن نساه ..و لقمني إياها إيمائياً ، أنا لست متسول، و مسح جبهته ليوصل لنا فكرة بأنه يعيش من عرق جبينه، كعامل نظافة، وترك مكانه على الرصيف وطلب منا أن نصوره وهو يزاول عمله، أراد أن يقول بأن العمل عبادة وهو يتشرف بما يقوم به..
توغلنا معه في الحديث، لنفهم بأن لديه عشرة أولاد يصرف عليهم، بشق الأنفس ” طلعت روحوا” من الشقاء و التعب، لكنه راض صابر بما قسم الله، وكانت هذه حصة جديدة من دروسه التي علمنا فيها الكثير، و جاشت بنا العاطفة ومن تحلق حولنا من الناس، فأحببت أن أغير الموضوع قبل أن تأخذني العبرات وينفضح ضعفي وهشاشتي، سألته عن مذاق القهوة، فأشار بأنها جيدة دون أن يعرض علي رشفة..!!
وحتى بهذه “طلع” صديقي فهيم ..في زمن “ك و ر و نا”، ممنوعة الضيافة حسب القول الحلبي المأثور : ” من تم لتم بتموت الأم”.!.
رقم العدد 16283