د . محمد فتحي عبدالعال
أدب الرحلة
شاب مصري في التاسعة والعشرين من عمره يخوض رحلة وصفت بالغريبة استخدم فيها حمارا للتنقل من منطقة الجيزة وحتى أسوان لدراسة عادات وثقافات كل مركز وقرية ومدينة في طريقه .
كانت الرحلة مادة دسمة للسخرية والمزاح ولكن غاب عن جل من مزح وسخر أن لمصر في الماضي باعاً طويلاً فيما يسمى (أدب الرحلات) والذي انقرض بمضي الوقت مع انتشار الوسائل الإعلامية التي تحفل ببرامج تدور بنا حول العالم ونحن في أماكننا وشبكات الإنترنت التي لا تحتاج فيها سوى لضغطة زر ليكون أمامك ملايين النتائج حول أي مدينة أو قرية أو طائفة سكانية تود التعرف عليها .
كما أن توقيت رحلة هذا الشاب لم يكن موفقا فقد جاءت في أثناء جائحة كوفيد- 19 والتي تنادي بالتباعد المجتمعي فارضة قيودا على التنقل والرحلات .
لندلف الآن من أبواب التاريخ ونطرق بوابات رحلات الماضي، وإذا ذكرت الرحلات في العهود الماضية فلا يمكن أن نغض الطرف عن الرحالة الأمير محمد علي توفيق .ربما لا يعرف الكثيرون عن الأمير سوى كونه ولي عهد المملكة المصرية وانحيازه للإنجليز وأنه كان خيارهم عندما هموا بإجبار الملك فاروق على التنازل عن الحكم في حادث 4 فبراير الشهير ويمكن العودة في ذلك لكتابي تأملات بين العلم والدين والحضارة. ثمة وجه آخر للأمير العجوز المصاب بالصرع وغير المتزوج وهو كونه تواقا للرحلات حول العالم وتسجيل مشاهداته في كتب قيمة من أبرزها :
“رحلة إلى أمريكا الشمالية” و”رحلة الصيف إلى البوسنة والهرسك”و”الرحلة اليابانية “و”رحلة إلى أمريكا الجنوبية”
و”الرحلة الشامية”و”رحلة إلى استراليا” ومن أطرف ما لاحظته في أحاديث الأمير محمد علي سعيه الشديد لإظهار التفرد في الثقافة والمعرفة الشاملة والاستنتاجات الارتجالية، فتجده عزيزي القارئ يعود بأصول محمد علي باشا الكبير، مؤسس مصر الحديثة، لديار بكر، على خلاف الشائع من كونه ألبانياً، وذلك في تصريح شهير له لمجلة “المصور” عام 1949 كما يرجح أن أصول الهنود الأمريكيين من “اليورجوت” ومن “سكان شمال آسيا” وأنهم هاجروا إلى هذه البلاد عن طريق كامتشتكا، وبالتالي فلهم السبق في اكتشاف أمريكا قبل كريستوف كولومبس!!
وكما كان الأمير طريفا في حياته فقد لاحقته الطرافة رغما عنه في أوقات كثيرة !!
هل سمعت عزيزي القارئ عن المثل القائل “عواد باع أرضه ” هذا المثل ارتبط أيضا بالأمير محمد علي ولكن عواد لم يبع أرضه إنما العكس الذي حدث فعناني أحمد عواد الفلاح بكفور نجم دخل في خصومة ومشاحنات مع تفتيش دائرة الأمير محمد علي انتهت بمصرعه، كما ارتبط الأمير أيضا بقصة طريفة مع دخول السيارات لمصر وخوف الحيوانات منها حينما اصطدمت سيارته بعربة كارو تحمل أخشابا عام 1901 مما أدى لتهشمها وإصابته .
ولا يمكننا أن ننسى رحلة حج خديوي مصر عباس حلمي الثاني إلى الأراضي المقدسة عام 1909 والتي سجلها محمد لبيب البتنوني تحت اسم “الرحلة الحجازية” وزود كتابه بلقطات نادرة التقطها اللواء إبراهيم رفعت باشا وعدد من الخرائط أعدها اللواء محمد صادق باشا. كما حوى الكتاب معلومات شيقة عن الحجاز والقبائل فيه والمحمل المصري والتكية المصرية في مكة والمدينة. وللبتنوني في أدب الرحلة كتب أخرى مثل “رحلة الصيف إلى أوروبا” و”الرحلة إلى أمريكا”.
وقد خلد أمير الشعراء أحمد شوقي ذكرى هذا الحج باعتباره شاعر القصر بقصيدة (نهج البردة) والتي تأتي على غرار بردة الإمام البوصيري فيقول في مطلعها :
” ريمٌ عَلى القاعِ بَينَ البانِ وَالعَلَمِ
أَحَلَّ سَفكَ دَمي في الأَشهُرِ الحُرُمِ
رَمى القَضاءُ بِعَينَي جُؤذَرٍ أَسَداً
يا ساكِنَ القاعِ أَدرِك ساكِنَ الأَجَمِ”
ومن رحلات أولي الأمر إلى رحلات صفوة المجتمع في مصر نمضي فنجد أحمد حسنين باشا خريج أكسفورد وصاحب المحاولات الأولى للطيران والبطل الدولي في لعبة الشيش يخوض عام 1920 تجربة جريئة لاستكشاف الصحراء الغربية برفقة السيدة الإنجليزية (روزيتا نوريس) حيث تمكنا من اكتشاف واحتي العوينات وأركنو للمرة الأولى، ولقب بعدها بالرحالة العظيم، وقد أقام له الملك فؤاد حفل تكريم بفندق سان استيفانو بالإسكندرية عام 1923 أنشد فيه أمير الشعراء أحمد شوقي أبياتا تقول :
“أَكبَرتُ مِن حَسَنَينٍ هِمَّةً طَمَحَت
تَروُم ما لا يَرومُ الفِتيَةُ القُنُعُ
وَما البُطولَةُ إِلّا النَفسُ تَدفَعُها
فيما يُبَلِغُها حَمداً فَتَندَفِعُ
وَلا يُبالي لَها أَهلٌ إِذا وَصَلوا
طاحوا عَلى جَنَباتِ الحَمدِ أَم رَجَعوا
رَحّالَةَ الشَرقِ إِنَّ البيدَ قَد عَلِمَت
بِأَنَّكَ اللَيثُ لَم يُخلَق لَهُ الفَزَعُ”
وحسنين باشا عزيزي القارئ هو نفسه رئيس الديوان الملكي في عهد فاروق والزوج العرفي لأمه الملكة نظلي زوجة الملك فؤاد الثانية !.
ومن الرحلات الشهيرة نأتي على ذكر رحلة المفكر والصحفي اللبناني (جورجي زيدان) إلى أوروبا عام 1912 والتي ضمت فرنسا وإنكلترا وسويسرا ونشرت في كتاب عام 1923.وجورجي زيدان هو مؤسس مجلة الهلال في مصر وصاحب روايات تاريخ الإسلام الشهيرة والتي صورت التاريخ الإسلامي للنشء كما لو كان حلقات من الصراع والمكائد وسلسلة من الدماء المتدفقة !!
بالطبع الطبقات الشعبية كان لها إسهامات في أدب الرحلات وإن بدت بسيطة أحيانا فنجد كتاب (رحلة إسماعيل في جميع المحافظات وعواصم المديريات ) لإسماعيل محمد مصطفى وقد صدر عام 1927 وإسماعيل كما يعرفنا بنفسه في كتابه من الفيوم ويعمل بالتجارة وقد كتب كتابه لإعلاء ذكر أبيه ويشمل الكتاب خريطتين للوجه البحري والقبلي ومعلومات عن الشوارع والأحياء وخطوط الترام والسكك الحديدية والتلغراف، وهي الصورة البدائية التي كان عليها أجدادنا في معرفة الطرق والمسارات ولنحمد الله على ما وصلنا إليه من تقدم وخرائط جوجل ونظام الجي بي اس على هواتفنا اليوم .من الكتاب نستطيع أن نتعرف على معلومات طريفة منها أن عدد سكان القاهرة عام 1917 كان 800,000 والإسكندرية 445,000 وأن إحصاء القطر المصري وصل عام 1927 إلى 14,168,756 نفسا!! .
لم تقتصر رحلات الطبقات الشعبية الوسطى والعليا على محافظات مصر بل نجد محمد ثابت المدرس بالمدارس الثانوية يقوم في صيف كل سنة برحلة حول العالم ويسجل مشاهداته ومن كتبه : “الجنس اللطيف في مختلف بقاع الدنيا أو نساء العالم كما رأيتهن 1940 “و “جولة في ربوع أستراليا بين مصر وهونولولو 1936″ و” جولة في ربوع آسيا بين مصر واليابان 1932″و”جولة في ربوع أفريقيا بين مصر ورأس الرجاء الصالح 1933″ و”رحلاتي في مشارق الأرض ومغاربها1946″.
لا يخلو أدب الرحلات وصناعه من مآرب أخرى منها ما هو سياسي فنجد كتاب محمد حسنين مخلوف في رحلته مع رئيس الوزراء علي باشا ماهر للسودان عام 1941 والذي حمل عنوان “أسبوعان مع علي ماهر في السودان ” حاملا فروض الطاعة والولاء للملك فاروق .ومنها ما هو ديني كالرحلة اليابانية الصادر عام 1907 للشيخ (علي أحمد الجرجاوي ) مؤسس صحيفة الإرشاد ورئيس جمعية الأزهر العلمية والذي قام برحلته لليابان عام 1906 للمشاركة في مؤتمر للمقارنة بين الأديان واختيار أصلحها كدين رسمي للإمبراطورية.
السؤال الذي يتبادر للذهن عزيزي القارئ؟
لماذا كانت اليابان وجهة لكل هؤلاء الرحالة من مصر وفي وقت مبكر كهذا ؟
تتلخص الإجابة في أن التجربة المصرية كانت ملهمة لليابان في بداية طريقها نحو النهضة حين زارت بعثة من الساموراي المحاربين مصر في عهد الوالي محمد سعيد باشا عام 1862 وأبدوا دهشة كبيرة من مستوى النظافة في مصر ووجود السكك الحديدية بها والتي تعمل بسرعة فائقة لكن التفوق في السرعة سرعان ما انتقل لليابان التي أذهلت العالم بانتصار مدو على روسيا بين عامي 1904-1905 لتخرج كقوة آسيوية لا يستهان بها مما جعلها قبلة الباحثين من مصر للوقوف على أسباب النهوض والتقدم، وقد تغنى شاعر النيل حافظ إبراهيم بهذا النهوض والانتصار فكتب رائعته (غادة اليابان) والتي يقول في مطلعها :
“لا تلمْ كفّي إذا السِّيف نبا. صحَّ مني العزمُ والدهرُ أبى.
رُبَّ ساعٍ مُبْصرٍ في سعيهِ. أخطأ التوفيقَ في ما طلبا”
كما كتب الزعيم مصطفى كامل كتابه عن اليابان الحديث تحت عنوان (الشمس المشرقة) ليحلل أسباب إخفاقنا وأسباب نجاحهم في التحول لحياة نيابية سليمة من دستور عام 1889 ومجلس للنواب وأحزاب وأوجه التقدم في النواحي الإدارية والتعليمية والصحفية باليابان.
نعود مجددا للتجارب الشعبية في أدب الرحلات
هل أصولك من الأرياف عزيزي القارئ ؟!ل و كانت الإجابة بنعم فحتما ستجد أن الحاج لا يتم حجته إلا حينما يعلن لجيرانه أجمعين عنها برسم طيارة أو باخرة على واجهة منزله وتزييلها بالحج المبرور والذنب المغفور للحاج فلان أو الحاجة فلانة، لذلك لا تتعجب عزيزي القارئ إن قلت لك أن أكثر ما شاهدت من كتب قديمة تقع تحت تصنيف أدب الرحلة بأقلام الفئات الشعبية كانت جميعها تخليدا لذكرى قيامهم بفريضة الحج، ومن أطرف ما قرأت منها كتاب (رحلتي إلى الحجاز) لحسن حسن خرسا “خامسة ثانوي بمعهد الإسكندرية” والصادر عام 1934 والذي جاء إهدائه موجها إلى حضرة الزعيم الاقتصادي (طلعت باشا حرب) “الذي خطا بالبلاد في هذه الأيام الأخيرة خطوة واسعة في سبيل تقدمها ورفع مستواها المادي بين الأمم المتمدنة” .
غريب ما علاقة طلعت حرب بالحج ؟!!
العلاقة في منجزات طلعت حرب الذي أنشأ شركة مصر للملاحة البحرية عام 1934 وكان من بواخرها الباخرتان (كوثر وزمزم) واللتان شاركتا في نقل الحجيج بين ميناء السويس وجدة، ويحكي خرسا عن مدى متابعة طلعت حرب لهذا المشروع باهتمام بالغ ومعاينته ومشاهدته لنظام العمل على الباخرة “فيقر عينا ويهدأ بالا” ولكن سبحان من له الدوام فمصير زمزم وكوثر كان كمصير صاحبيهما سواء بسواء فقد أدت الحرب العالمية الثانية إلى أزمة ببنك مصر وأجبر طلعت حرب على الاستقالة، كما استخدمت الباخرتان في الأغراض العسكرية مما أدى لتدميرهما في غالب ظن الباحثين .
تعطينا أيضا رحلة خرسا معلومات طريفة عن عدد الحجاج عن طريق البحر والذي يقدره بأربعة وثلاثين ألفا والضعف عن طريق البر ليصل إجمالي الحجيج إلى مئة ألف حاج من بينهم ” أمراء الهند ذوو الثروة الطائلة والمال الوفير”!!
ما رأيك عزيزي القارئ في أدب الرحلات ؟! وكم تتوقع أن يتجمع لديك من معلومات عن أصحابها وما حملوه من تجارب ومشاهدات ؟ وهل في مقدورك أن تنقل تجاربك ومشاهداتك للآخرين لقد بدأت بنفسى وكتبت رحلتي مع كوفيد 19 في كتاب إلكتروني في جزأين على Smashwords وعلى قناتي على اليوتيوب.