في الذكرى الخمسين لوفاتِه: شكراً لكل من عمل ويعمل على تخليد مسيرة علّامةِ حلب خيرِ الدّين الأسديّ العلميّة والمعرفيّة، مؤلف الموسوعة الأهمّ في تاريخ حلب “موسوعة حلب المقارنة”!
الجماهير- بيانكا ماضيّة
يصادف هذا العام الذكرى الخمسين لوفاةِ علّامةِ حلب خيرِ الّدين الأسديّ، إذ توفّي في 29/ 12/ 1971 ، وبما أنه ترك إرثاً عظيماً من فقهٍ ونحوٍ ولغةٍ وشعر، ومازالت حتى هذا اليوم تكتشف بعض مخطوطاته، ومازال الدكتور ناهد كوسا تلميذ الأسدي يسير على خطاه متتبّعاً كل ماتضمّنته مسيرته العلمية والمعرفية والاستكشافية، لابد من القول: شكراً لكل من عمل ويعمل على تخليد مسيرة علّامةِ حلب خير الدين الأسديّ، العلامة الذي قدّم لحلب مدينته عمره كله في سبيل تدوين كل مايخصها من لهجة وعادات وتقاليد وغيرها من إرث لامادي.
واليوم تشكل جوائز خير الدين الأسدي في إصدارها الثامن، والتي أطلقها د. ناهد كوسا بالتعاون مع جمعية العاديات، الحدث الأبرز الذي تم تسليط الضوء عليه خلال الفترة الماضية من خلال إقامة نصب تذكاري له في كلية الآداب، إضافة إلى توزيع جوائز العلامة الأسدي على من فاز بها.
كان آخر لقاء تمّ بيني وبين الدكتور كوسا منذ ثلاثة أعوام حين التقيته ودار حوار بدأ به بانطلاقته على خطا درب خير الدين الأسدي، ووصوله إلى معلومات مهمة وجديدة لم تكن معروفة من قبل، تم نشر الحوار حينها في صحيفة الشهباء بحلب بتاريخ 29 كانون الثاني 2019 ، العدد36 .
ولد العلامة محمد خير الدين الأسدي في حي “الجلوم” في مدينة حلب عام 1900، لأبوين حلبيين، هما عمر رسلان رجل الدين وأستاذ اللغة العربية والصرف في المدرسة العثمانية والمدرسة الخسروية، أما والدته فهي من عائلةٍ حلبيةٍ ثرية اشتهرت بالتجارة.
أسس في العشرين من عمره مكتبةً ساعدته على التبحر في جزئيات المسائل النحوية واللغوية. وكان في المدرسة العثمانية التي درس فيها فحول العلماء، أمثال: الشيخ بشير الغزي مدرّس النحو، والشيخ محمد الحنيفي مدرّس البلاغة، والشيخ محمد الزرقا مدرّس الفقه، وغيرهم من أساتذة التفسير والحديث وأصول الدين.
في عمره هذا دخل الأسدي سلك التعليم وبدأ حياته معلماً في المدرسة العربية في حلب، ثم في المدرسة الشرقية ثم في المدرسة الفاروقية، وخلال هذه الفترة ألف كتابه “قواعد الكتابة العربية”، وفي عام 1923 قرّر إخراج مسرحيته “الاستقلال” مع بعض طلابه من مدرسة الفاروقية، وفي يوم العرض وضع في كيسٍ كميةً من البارود فانفجرت في يده، وبعد أيام فقد كفَّه اليسرى، إثر مداواة فاشلة، ثم ترك التدريس في المدرسة الفاروقية نهائياً.
كان عالماً موسوعياً، يتقن عدداً من اللغات الشرقية كالتركية والسريانية وأيضاً الفرنسية واللاتينية، كما درس علوم الدين، وأتقن علوم اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة، وكان واسع الاطلاع على الأدب العربي القديم. من مؤلفاته المطبوعة: البيان والبديع 1936م، عروج أبي العلاء 1940، قواعد اللغة العربية 1941، أغاني القبة 1951م، يا ليل 1957م، حلب1951، ثم موسوعة حلب التي تضمُّ خمسة مجلدات كبيرة مذيلة بفهارس كاملة، وقد طبعت عام 1987، أي بعد ستة عشر عاماً من وفاته وكانت أهمَّ إنجازاته والتي قضى في جمعها وتدوينها ما يقارب الثلاثين عاماً.
وكان شاعراً صوفياً بارزاً، ألّف ديوان “أغاني القبة” فكان رائداً عظيماً بقصيدة النثر في الأدب العربي، إذ كانت أغانيه أناشيد ذات صور خيالية، ومزامير صوفية أسدية، تستمدُّ قوَّتها وغرابتها من صدق معاناته في تحليقه بروحه نحو الله عزّ وجلّ.
بدأت صحة الأسدي بالتدهور مع نهاية الستينات من القرن الماضي، وحين شعر بدنوِّ أجله كتب وصية قال فيها: «لديَّ مكتبة وطرائف فنية أهديها لبلادي وللعالم، وأوصى أن يقام له ضريح يكتب عليه فقط ”خير الدين الأسدي”، لكن القدر رتب له أمراً آخر، إذ حين توفي عام 1971 حُمل الأسدي إلى مثواه الأخير بلا جنازة ولا مشيّعين، ولا قبر معلوم، وانشغل أهله بتصفية تركته واقتسامها، ونسوا مخطوطات له تنتظر الطبع، وجسداً في التربة بلا قبر.
دعواتٌ عديدة أطلقها باحثون ودارسون لغويون ومحقّقون؛ للحفاظ على إرث هذا البحّاثة اللغوي خير الدين الأسديّ، الذي أمضى سنيّ حياته في جمع كل مايتّصل بمفردات حلب المحكيّة؛ ليؤلف موسوعته الشهيرة (موسوعة حلب المقارنة) والتي استغرق ثلاثة عقود من الزمن لجمع محتواها. ومن المعروف أن الباحث الأستاذ محمد كمال قام بتدقيق وتحقيق الموسوعة التي تضمّ سبعة مجلّدات، وتقع في 3236 صفحة من القطع الكبير، صدرت عن جامعة حلب، وشكّل صدورها حدثاً ثقافياً مهمّاً في حلب، نظراً للقيمة الكبيرة التي يتمتع بها هذا العمل الموسوعي المهم من جهة، ونظراً للظروف الخاصة التي أحاطت بحياة المؤلف ووفاته من جهة أخرى، إلا أن ثقافة المؤلف الموسوعية حوّلت هذا المعجم اللغوي إلى موسوعة إثنوغرافية، إذ تشمل كل ما يخصّ أهل حلب، ومايخصّ اللهجة الحلبية من استعارات ومجازات وتوريات، والأمثال والحكم والحكايات والنوادر والشتائم والحيل، ومراسيم الأفراح والأتراح والمواويل والعادات والتقاليد والخرافات والاعتقادات لأهل حلب، وأنواع الأطعمة والأشربة والحارات والأسواق والخانات في حلب، والقبائل الضاربة في أرباضها، ونبذات عن الأُسر والأعلام فيها. وأشار الباحث كمال إلى أن الموسوعة تمثل عملا شاملا أفقيا وعموديا، تاريخيا وواقعيا، وأن الأسدي كان يجمع مادته من أفواه الناس بالمدينة، ثم يعود إلى بيته؛ ليبحث في المعاجم اللغوية عن المفردات التي التقطها، ويقوم بشرح معانيها بأسلوب عالم متمكن ومبدع.
أولى الدعوات الحديثة أطلقها الدكتور صلاح كزارة في مقالة له نشرت بمناسبة مرور أربعين عاماً على وفاته, في مجلة العاديات عدد صيف 2011 بضرورة تشكيل لجنة من أصحاب الاختصاص تتولى إعادة تحقيق موسوعة حلب المقارنة للعلامة اﻷسدي بعد توفير العدة اللازمة من المراجع والمصادر التي اعتمدها حين صنفها.
وثاني الدعوات أطلقها الباحث والكاتب المسرحي عبد الفتاح رواس قلعه جي مؤلف كتاب (العلامة خير الدين الأسدي، حياته وآثاره) الذي قامت الإدارة السياسية في الجيش العربي السوري بطباعته على نفقتها. وقد أشار عبر صفحته في موقع التواصل الاجتماعي إلى المخطوطات التي لم تطبع بعد من مخطوطات الأسدي، وقد قال: “مخطوطات العلامة خير الدين الأسدي التي لم تطبع حتى الآن:
1- كتاب (الله) 112 صفحة بحث شامل لغوي ومعرفي.-2-كتاب (أيس وليس) بحث لغوي صرفي مقارن في جزأين في فعل العدم والوجود (97+103) صفحة. 3- كتاب (الألف) 431 صفحة بحث لغوي شامل.4_كتاب (الموسوعة في النحو) 310 صفحات. اطلعت عليها جميعا حين تأليفي كتابي عنه وأعتقد أن مآلها سيكون الضياع”.
وحين تواصلتُ معه لمعرفة مكان وجودها سابقاً، أشار إلى ” أنها كانت موجودة لدى ابن أخته ولا أعلم عنه شيئاً، ولا عن مسكنه، فقد كان يسكن في الزبدية قبل الحرب، ثم انقطعت أخباره عني”.
وأخيراً جوائز خير الدين الأسدي التي أطلقها تلميذ الأسدي د. ناهد كوسا بالتعاون مع جمعية العاديات قد وصلت إلى إصدارها الثامن، وقد تفرعت لغير جائزة وتعاونت أيضاً جامعة حلب/ كلية الآداب في هذا المشروع الضخم، وقد أقيمت الجائزة في هذا العام لتكريم من عمل أو يعمل على توثيق تراث بلدنا (سورية عامة وحلب بشكل خاص) لكن السنة الحالية سنة استثنائية، فنحن اليوم في الذكرى الخمسين لوفاة علّامة حلب خير الدين الأسدي.
هذا وسيكون لنا وقفات عديدة مع من عمل في هذا المشروع فهناك أفكار جديدة طرحت، ولابد من تنفيذها في أسرع وقت، استكمالاً لخطا الأسدي في رحلة حياته المعرفيّة.