بقلم الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
مع تردد لفظة الإصلاح على ألسنة الكثير من البشر في جنبات الدنيا الأربعة يصبحُ فهم معنى هذه الكلمة أكثر إلحاحاً إذ فهم معنى أي مصطلحٍ يعطي رسوخاً له في الفكر.
والإصلاح من حيث لغتنا العربية يُمثِّل معنىً يقف على طرف التضاد من معنى الإفساد؛ أي أن الإصلاحُ ضد الإفساد، وهو مشتقٌّ من الصلاح المضاد للفساد، وفي القرآن الكريم قوله تعالى:{خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً}[التوبة:102]، وقوله عز وجل{ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها}[الأعراف:56].
فالإصلاح حركة منطقية تنقل الفرد والمجتمع من حالٍ إلى حالٍ أرقى، هو السير نحو الأفضل، من المرض إلى الصحة، من الخراب إلى العمار، من الهدم إلى البناء.
إن المستقرئ لمعظم الدعوات الإصلاحية عبر العصور يجدها قيمة كالخير والحق والصدق تنبع من وجدان المجتمع، من عُمقه لا من خارجه، من نبضه اليومي، ومعاناته الآنية، تنبع من داخل المجتمع فتُحرِّكُه للقيام بإصلاح ما فسد، تحرّكُه بمكوّناته في سائر مناحي الحياة؛ لتنتقل به إلى حالات الارتقاء والتطوّر والرخاء والعدل والمساواة.
ولذلك نجد الرسالات السماوية تظهر في وسط المجتمع فتدعو إلى إصلاحه على ألسنة أفراد من نسيجه الطبيعي، من مكوّناته الأصيلة، فلم نجد رسولاً أتى إلى غير قومه ليدعوهم للإصلاح، بل جميع الرسل والأنبياء بُعثوا إلى أقوامهم ليهدوهم سبيل الرشاد، وكثيرةٌ هي الآيات القرآنية التي تشير إلى هذه الحقيقة كقوله تعالى{وإذ قال موسى لقومه} [البقرة:54]، وقوله:{ لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه}[الأعراف:59]، وقوله: {ولوطاً إذ قال لقومه} [الأعراف:80]، وقوله: {وإبراهيم إذ قال لقومه} [العنكبوت:16]
ولقد وصف الله تعالى في القرآن الكريم رسالات الرسل عليهم السلام بأنها دعوات إصلاحية فقال على لسان شُعيبَ عليه السلام وهو يُخاطب قومه: {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت} [هود:88]، هذه الدعوات الإصلاحية كُتب لها الظهور والنصر بعد الصبر لأن أصحابها قد تسلحوا بالإيمان، تسلحوا بجدوى دعوتهم وأحقيَّتها في قيادة المجتمع والانتقال به من حاله السيئ إلى حالٍ أفضل.
إن المتأمل في صفحات تاريخ الإنسانية يلاحظ قوافل من المصلحين مرّوا عبر مراحل خطيرةٍ من التجاذب والتدافع مع الفساد والإفساد؛ وإن كانت النُّصرة لأرباب الفساد في بعض المواقف الآنية غير أن صورة ذلك النصر المُزيّف قد تجلّت أمام ضمير الأمة الجمعي مع مرور الوقت هزيمةً للمفسدين رسَّخت معاني الحق والإصلاح ونُبْلَ أهله.
فمثلاً: عندما قام النبي يحيى بن زكريا عليهما السلام يدعو إلى الإصلاح رفض الملك في زمانه دعوته وأراد أن يجعل منه جسراً ليعبر من خلاله إلى شهواته الحيوانية؛ فأبى يحيى عليه السلام؛ فما كان من ذلك الملك إلا أن أمر بقتله، فقُطِع رأسه. هذا الموقف لم يكن يوماً من الأيام هزيمةً للحق وخذلاناً للإصلاح وأهله؛ على العكس لقد جرّ الويلات على المفسدين فأهلكهم.
وعندما هاجر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنوّرة حاملاً دعوته الإصلاحية معه، لم تُترجم هذه الهجرة هزيمةً أبداً؛ بل هي نصرٌ وفتحٌ مبين، وما كانت كذلك إلا لأننا نحن البشر عرفنا ماذا حدث بعد ذلك من بناء مجتمع الإصلاح.
وإذا أردنا أن نقرأ في تاريخ بلادنا الحديث سنقف أمام البطل يوسف العظمة الذي واجه جيوش المستعمر الفرنسي بأفراده ومعداته المتواضعة لينتهي به الحال إلى الشهادة في معركة ميسلون المُشرِّفة، لقد استشهد بعد أن وقف في وجه الفساد المتمثِّل بالعدوّ الذي يريد سلب البلاد وإذلال العباد؛ فكان استشهاده نصراً للأجيال. هكذا تتجلى صور الإصلاح والمصلحين.
نعم مسيرة الإصلاح على مستوى القاعدة المجتمعية العريضة تحتاج إلى صبر وتضحية غير أن النصر حليفها ما دامت تتسلح بسلاح الإيمان؛ وتجتهد في مسيرتها أَمَا قال ربنا في القرآن الكريم :{الذين أمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب}[الرعد:29] وقال أيضاً:{ إنّا لا نُضيع أجر المصلحين} [الأعراف:170]، إذن الله تبارك وتعالى يدعم الإصلاح ويَعِدُ أهله بالفلاح وهو لن يُضيع لهم أجرا.
لذا فإن أهل الفساد في سائر الأزمنة والأمكنة يرتكبون خطأهم القاتل مهما كانوا على قدرٍ عظيمٍ من القوة عندما يقررون مواجهة الإصلاح وأهله؛ لأنهم في حقيقة الأمر قرروا أن يواجهوا أناساً يدعمهم الخالق، والخالق سبحانه لا يُهزم أبداً. فكلما ازداد المفسدون شراسةً وعداوةً؛ كلما ازداد الإصلاحُ رسوخاً وقوةً وامتداداً.
ونحن في بلادنا المباركة نناشد أهل القدرة على الإصلاح ليكونوا على قدر المسؤولية المُناطة بهم، ليسلكوا سبيل الإصلاح المُفيد لشعبنا الصابر ووطننا العظيم.
فيا رب الكون والملكوت ألقِ بركاتك ورحمتك ومغفرتك على ربوع بلادي يا أرحم الراحمين.