رحلة مع الأديب وليد إخلاصي في أزمنة وأمكنة المدينة ! … (حلب بورتريه بألوان معتّقة) مشاهد ممعنة في التفاصيل عن المدينة تبتدئ بقلعتها ولا تنتهي عند حدود الجمال فيها!
الجماهير – بيانكا ماضيّة
رحل روائي المدينة وليد إخلاصي، رحل ولكن كتاباته بقيت شواهد عن جمال حلب، عن أناسها، عن تاريخها وحضارتها، عن قصص العشاق فيها، حلب التي رسمها إخلاصي بورتريه بألوان معتّقة، كيف بدت لنا في ذاكرة إخلاصي؟! حلب التي قال عنها يوماً: إنها حلبي أنا!!
(حلب بورتريه بألوان معتقة) الكتاب الذي صدر له عام 2006 في طبعة خاصّة بمناسبة احتفالية حلب عاصمة الثقافة الإسلامية، هو كتاب ضمّ ذكريات هذا المؤلف في مدينته الشهباء حلب، قصّها علينا بأسلوبه الذي اعتدناه في قصصه ورواياته، لا ليفتح أمام خيالنا أنفاقاً نعبرها إلى الزمن الماضي وحسب، وإنما ليضعنا أمام هذا ( البورتريه المعتّق ) لهذه المدينة العريقة .
وكانت الفاتحة التي أطل بها المؤلف إخلاصي من خلال الكتاب حديثاً عن تلك المرأة التي (أطلت … من شرفتها ، وتمطّت … لم تغرّها شهقات المحبين وآهات التاريخ طمعاً في حبها ) عن حلب التي يراها فاتنة جميلة تتقن فن الحفاظ على فنتنها، إذ راح يصفها لنا مقدّماً صورة بانورامية لها، وكأنه التقطها لها من مكان عل، قد يكون القلعة، ولم يكتف بتصويرها كمشاهد وإنما تغلغل إلى ماتمتاز به من أسواق وخانات وأبواب وبيوت تناثرت هنا وهناك؛ ليكمل لنا تصويره عن تراثها المادي غير المتوقف عنده، إذ لابد من الحديث عن تراثها اللامادي وهو الغناء والطرب والإنشاد، إلى ما رآه يلف ذلك التراث من تنوع الثقافات والعقائد ليشكل نسيجها أنموذجاً للتعايش بين كل الأديان .
كتاب ( بورتريه بألوان معتقة ) ليس قصة أو رواية يتحدث الأديب إخلاصي من خلال عناصرها وأشخاصها عن هذه المدينة، وإنما هو وقفة مع الذكريات الأصيلة، مع المعتقدات والتقاليد التي نشأ عليها منذ صباه، لتشكل الوعي الأولي له، ومنها احترام الواجب، والتوقف عند اللون الأخضر المزيّن للمزارات لأداء فروض الاحترام وتلاوة الأدعية، وأهمية ذاك اللون في النفوس وتحوله إلى لون ديني لاجدال في قداسته، إلى ماهنالك من أفكار متعلّقة بالقداسة الشعبية، وهذا مانجده تحت عنوان (تهيؤات حلبية) الذي اتخذ لنفسه اسم الفصل الأول من الكتاب، على أن المؤلف قسم كتابه إلى ثلاثة عشر قسماً هي بعد الفاتحة وتهيؤات حلبية، تخريفات حلبية، صديقي الفلسطيني، من الأخبار القديمة، صراعات حلبية، أحزاب … أحزاب ، سيرة حلبية، المدير الذي قال لا، هامش على دفتر الذكريات الحلبية، حلب 1946، مدام أوديت، في رحاب السيدة الجميلة .
في (تخريفات حلبية) يقف إخلاصي على الأحجية التي شكّلت له أول معضلة فكرية يواجهها في حياته، إذ وقف عاجزاً عن الإجابة عنها بعد أن ألقاها على مسمعه رجل في بداية شيخوخته، ومفردات تلك الأحجية هي : ( كنا تلاتة في بتّة، أجانا الموت صرنا ستة) ولنمضي مع المؤلف عبر صفحات يصف فيها اعتمال هذه المفردات في فكره طيلة سنوات، رابطاً بينها وبين كل ماتقع عليه عينه من مشاهد أو مايتعلمه من أمثال، أو مايشاهده من تظاهرات شعبية زمن الانتداب الفرنسي، غير أنه خرج من دوامة تلك الأحجية حين وجد له شيخ كان يعلمه الإنشاد العربي في المدرسة الابتدائية التقاه مصادفة في مقهى مفتوح مقابل القلعة، مخرجاً إياه من هذا المأزق ليؤكد له أن هناك الكثير مما يقال لامعنى له، ومثله الكثير من الحكايات .
وعلى الرغم من أن عناوين أقسام الكتاب تشي بأنها قصص كتبها إخلاصي، إلا أنها قصص ليست بخيالية، وإنما هي قصص واقعية، أبطالها أناس كانوا يعيشون بين ظهرانينا، وأحداثها جرت في هذه المدينة، فتحت عنوان (صديقي الفلسطيني) يؤثر إخلاصي على الإحاطة بالمكان والزمان، وبتصوير شخصية الفتى ( عمر ) الفلسطيني الأصل، والقاطن في مخيم النيرب، والذي تعرّف إليه في يوم ثلجي من أيام حلب الماضية، وقد أصبح في ذهن المؤلف فيما بعد بطلاً أو نموذجاً للمناضل الفلسطيني، فلاتلبث ذكراه أو صورته تطلّ في مخيلته إثر كل حدث سياسي متعلق بفلسطين، وكأن هذا الفتى هو الذي تتجسّد في شخصيته كل ملامح القضية الفلسطينية .
ثم إن المؤلف يريد أن يستجمع كل ذكريات الماضي، فيدرج أحداثاً تحت عنوان، وأخرى تحت عنوان ثان، حتى لايفلت منه أي خيط يربطه بذكرى ما من ذكريات الطفولة والشباب في هذه المدينة، وكأنه اقتطع تلك الذكرى اقتطاعاً من الذاكرة؛ لئلا تفوتنا مشاهدها وزمانها ومكانها، وهذا ما استشعرته في كلامه عن (الأخبار القديمة) ليشير إلى ارتباط أيام طفولته بحي الفرافرة، وبمدرسة الحمدانية، وبمدرّسيها الذين بقي بعضهم راسخاً في الذاكرة، حتى لكأننا نتلمس في فصول هذا الكتاب فصولاً من سيرة هذا الروائي، كتبها للتفنن في وصف جمال هذه المدينة، ولتثبيت أزمنة أحداث مرّت معه فيها، ولتجميع مراحل الزمن الغابر، تلك التي قضاها المؤلف إخلاصي بين ضلوعها .
غير أني وجدت في (صراعات حلبية) التي صوّر فيها ذلك الصراع الذي احتدم في مدرسة التجهيز الأولى بين أصحاب تيارات الفكر المتصارعة، أيام كان فيها طالباً، وإثر مجادلته أستاذ الديانة، وجدت فيها قصة ممتعة لاتخلو من عنصري الإدهاش والتشويق، ومازاد في استمتاعي بها، تصويره الحوار الذي دار في مجلس التأديب الذي انعقد لإصدار قرار بشأن اعتدائه على المدرّس على أنه ( نموذج للصراع الدائر بين الأحزاب القائمة بل الساحة السورية آنذاك، وكان في تخفيف العقوبة نصر للأحزاب الجديدة على القديمة منها والتقليدية) ، وتصويره كذلك ممر المدرسة الذي اجتازه للاعتذار من المدرّس على أنه الصورة الواقعية السائدة في المدينة، إذ قال:
( كانت حلب تغلي بالأحزاب والشعارات التي تنوس مابين يمين ويسار وتمثّل أنواعاً من التعصّب الديني، وتجهر كذلك بالدفاع عن المبادئ القومية والاشتراكية، فكان الممر الذي كنت أعبره نحو احتفال الاعتذار بات يعبّر عن الصورة الواقعية السائدة في المدينة، ويبدو أن النكبة الفلسطينية وماتبعها من انقلابات على البلاد كطائر يشوى حياً، هي المحرك الفعّال لتلك الحيوية الهائجة، وهي التي أوقعتني في فخ الحياد الذي مازلت أجاهد للاستمرار فيه) .
ولابد لخير الدين الأسدي في ظلّ هذه الذكريات من أن يأخذ طريقاً له في صفحات الكتاب، حتى إذا ماجاءت صفحات (سيرة حلبية) لتعلن سيرة حياة هذا الإنسان العاشق لمدينة حلب، وقفنا مع المؤلف وهو يستعرض سيرة حياته في تعليمه وشغفه بالعلم وبالكتب وبتدوينه موسوعته، حتى الأيام الأخيرة من حياته، والتي قضاها في دار العجزة، لنقف معه مرة أخرى في ذكرى إحياء الأربعين له، في موقف كان فيه الراوي المؤلف واحداً من الشخصيات التي ذهبت للتعرف على مثوى الأسدي، ليعلمنا من خلال هذه الحادثة عن ضياع اسم الأسدي في دفتر يوميات الدفن، إذ سجّل باسم ضياء الدين أسد، وعن ضياع قبره في مقبرة الصالحين التي تولّى التربي فيها دفنه بين قبرين متلاصقين حين جيء إليه بالأسدي، وما من مشيّع واحد معه .
ونقف بعد ذلك على عنوان مثير وهو (المدير الذي قال لا) ذلك المدير الذي أدار ذات يوم مدرسة التجهيز الأولى بحلب، ألا وهو الأستاذ عبد الغني جودة، ورفض زيارة الجنرال الفرنسي للمدرسة أيام الانتداب الفرنسي، إذ يقص علينا الأديب إخلاصي هذه الحادثة في خضم الأحداث التي كانت تجري في تلك المدرسة والمظاهرات التي كان الطلاب يقومون بها، مدللاً على الانسجام والتوافق بينهم حول الهدف الذي تقوم من أجله تلك المظاهرات، واصفاً التفاصيل الدقيقة في حالة الطلاب المتجمهرين في ممرّات المدرسة وباحتها، مستدعياً إياها من ذاكرته، وكأنها حادثة لم يعل غبار الزمن عن تفاصيلها، ليشير إلى مايبقى في الذهن من تلك الحوادث التي تشكل نقاط علّام في تاريخ مدرسة التجهيز الأولى .
وهكذا نمضي بلا توقف في صفحات معنونة بـ (هامش على دفتر الذكريات الحلبية) مع ذكريات هذا الأديب بدءاً بحكاية الكتب فخان الشربجي فسوق الجمعة مروراً بالمنصورية ومدرسة الحفّاظ، وانتهاء بأسماء أعلام رواد الموسيقا والغناء في حلب، ليطل علينا الأديب في حكايات تشكل بالنسبة إليه مفاصل مهمّة وحيوية في حياته وحياة المدينة، حتى لتمتزج الحياتان في لحظة من اللحظات، فيخال القارئ أنها ليست حياة المدينة وحسب، وإنما هي حياة كل الناس الذين عاشوا تفاصيل الأحداث وبقيت ذكرياتها شواهد على عظمتها .
وتحت تلك العناوين نشهد بذور الحياة الفتية التي عاشها الأديب وليد إخلاصي منفتحاً من خلالها على أنواع من المعرفة والزاد العلمي ، وأنواع أخرى من تجارب معيشية تكسب المرء خبرات عديدة في مجالات متعددة ، مؤكداً في نهاية كل ذكرى من تلك الذكريات الأثر الهام الذي تركته تلك الأيام في نفسه وفي شخصيته وفي فكره ، راسماً لنا من خلال صفحات الكتاب ليس ملامح المدينة وحسب وإنما ملامح شخصيته أيضاً ، تلك التي يكونها القارئ من خلال إبحاره في سطور الصفحات .
وتحت تلك العناوين أيضاً رجوع بالذاكرة إلى مشاهير الفن التشكيلي في حلب من أمثال لؤي كيالي وفاتح المدرس وغالب سالم، وكذلك إلى مشاهير الموسيقا والغناء في مدينة حلب من أمثال بكري الكردي وعمر البطش، في إطلالة لذكريات الأديب أحالته إلى أيام اللقاء معهم والتعرف إليهم، ومن ثم الحزن على رحيلهم وهم الذين يشكّلون علامات بارزة في حياة مدينة حلب الغنية بالموسيقا والطرب والفن الأصيل، وكأنني بالأديب إخلاصي يفتح سجلّات الزمن في هذه المدينة بالإضافة إلى السجلّات الحافلة بمشاهد الموت، وربما ليؤكد خلود أرواح هؤلاء العظام الذين لايمكن أن تطفئ جذوة وجودهم في هذه المدينة نيران الموت السارية في الجسد.
إلى أن نأتي إلى عنوان (حلب 1946) لنقع على وصف جميل يهز المشاعر والألباب، وهو وصف ليوم الاستقلال والإعلان عن فرح يوم استثنائي من أيام المدينة بعد ذكريات ربع قرن من الاحتلال الفرنسي للبلاد، وصف فيه تشويق لما سيحدث في الملعب البلدي من مشاهد بهجة عارمة مانسيتها ذاكرة أديبنا، لما فيها من مشاعر وطنيّة جيّاشة لابد للمرء من التعبير عنها، راحلاً بالذاكرة إلى يوم مضى من أيام حلب الوطنية، حتى نأتي على جمود تلك المشاعر بسقوط الطائرة التي كانت تلقي قصاصات ورق ملون واصطدامها بسور الملعب، الأمر الذي أسفر عن فوضى وجلبة بين أبناء المدينة المحتشدين في الملعب للاحتفال بيوم الجلاء الأول، وعن هلع وخوف وذعر لم يشهد لها أديبنا مثيلاً في حياته البتّة .
إنّ قصص هذا الكتاب شائقة ومثيرة، تجعل القارئ منقاداً للكلمات والسطور لإكمال سلسلة المعرفة بنهايات القصص، ولعل قصة مدام أوديت، تلك الجارة التي اعتاد أديبنا زيارتها بين الفينة والأخرى، واحدة من تلك القصص التي تشدّ الانتباه، راسمة في الخيال مشاهد مايصوره لنا الأديب، وكأننا نسير معه وندخل بيت أوديت معه، ونلاطف كلبها “فيديل” معه، ثم نحزن معه على موته، ومن ثم موتها من دون أن تكون هناك زيارة لوداع أخير لن يحدث بعده لقاء أبداً، إلى أن نأتي إلى ختام الكتاب بفصل عنوانه (في رحاب السيدة الجميلة) فنتملى من خلاله تضاريس هذه المدينة الجميلة، وتاريخها، وحضارتها الممتدة آلاف السنين، وطريق الحرير الذي عبرها، وشكّل على جانبيه خانات وأسواقاً لاتزال تحمل الكثير من ذكريات القادمين والراحلين واللاهثين وراء الآثار والتاريخ، حتى إذا أبحرنا في صفحات هذا الفصل الجميل، وجدنا أنفسنا أمام صورة بانورامية للمدينة تتخللها علامات الفخر والاعتزاز والزهو بجمالها وتاريخها وحضارتها، وشخصياتها الفكرية والأدبية والسياسية، واضعاً المؤلف بين أيدينا ملخّصاً عاماً عن المدينة يبتدئ بقلعتها ولاينتهي عند حدود الجمال فيها.
* ملاحظة: الصورة المرفقة بعدستي التقطتها له عام 2006 في مكتبه في أثناء احتفالية حلب عاصمة للثقافة الإسلامية.