يحيى فرواتي
حين رأيت على أحد الإعلانات الطرقية إعلاناً لمسرحية باسم (روحة بلا رجعة ) مع بعض الصور لممثلي هذه المسرحية، انتابني شعور بالمرح والفرح، فعنوان المسرحية فكاهي بامتياز وبدأت تراودني الأفكار في عقلي عما سأراه من رحلة شيقة ربما لن تعود من بعدها الشخصيات، وأما المشاهد فسوف يعود إلى منزله، وقد أخذ وجبة مسرحية ثقافية فكاهية دسمة.
تخييب ظن :
دخلت يوم السبت في ثالث العروض لهذه المسرحية، وقد كان حماسي يسبقني لأنني رأيت خارج أسوار النقابة جمهورا قد تحدى الظروف الاقتصادية الصعبة، وجاء ليدفع مبلغا لا بأس به؛ ليحضر، وجمهوراً تحدى الظروف الجوية السيئة طمعاً
في إرضاء شغفه وحبه بالثقافة والمسرح قبل أن يخيب ظني، ويخبو ذلك الحماس لي، ولذلك الجمهور في سراديب قصة المسرحية.
افتتحت المسرحية وأضيئت الأنوار وكشف عن بعض الديكور(الجيد بالتكلفة فقط) على الخشبة بينما تبث في الخلفية أغنية تمهد لنا ما سنراه وتعطينا انطباعاً عن ماهية المشاهد، وبهذا فإن المشاهد أصبحت لديه خلفية واضحة جداً عما سيروى من خلال الإعلانات الطرقية وتثبت ذلك بالأغنية، فأي شيء آخر سيعرض عليه سيخالف توقعاته وبهذا نكون كمشاهدين قد فككنا ألغاز الشخصيات وخفايا النص قبل أن يبدأ العرض.
بدأت الشخصيات بالظهور توالياً، والتي يجسدها فنانون مميزون، ولهم بصمتهم في المسرح الحلبي، الأستاذ محمد جعفر والأستاذ بسام الهيب والممثلة سلاف كرز والممثل أحمد عزيزة والممثل نور عزو وآخرون.
شخصيات هزيلة :
خلال أحداث ومشاهد المسرحية نرى أن لا خط درامياً معيناً تسير عليه القصة ولا نستوعب الصراع الرئيسي الذي خلقت لأجله الشخصيات، وإنّها أي الشخصيات قد تم بناؤها بناء هزيلاً من قبل الكاتب والمعد، إذ إن كل شخصية مقتطفة من أخرى مشابهة لها بنفس طريقة القص والنسخ المستعملة على الحواسيب .
فشخصية قائد الباخرة طنّوس الذي يجسدها الفنان محمد جعفر، هي ذاتها شخصية طنوس في مسلسل (الواق واق التي جسدها الفنان باسم ياخور) حتى دون تعديل على الاسم وبنفس (الكاراكتر)، وشخصيتا خلدون وحدّو اللتان يجسدهما كاتب المسرحية ومخرجها الأستاذان عمر دهبي وحكمت أسعد إنّما هما شخصيتا (فريد وصبحي في مسلسل صايعين ضايعين، والتي جسداهما الفنانان أيمن رضا وعبد المنعم عمايري)، وشخصية بديعة في المسرحية والتي تجسّدها الممثلة سلاف كرز، إنما هي شخصية بسمات بسيطة التركيب للمرأة المتعجرفة التي أفلست، ولكن مازالت تظهر غناها، وهي شخصية بسيطة جداً، يمكن لطالب إعدادي أن يخلق مثلها في موضوع إنشائي لمذاكرة اللغة العربية..وهلم جرا… فقد رسمت الشخصيات الباقية بناء على تكوينها الجسدي (كاراكتر) دون مراعاة لأبعاد الشخصيات النفسية والروحية أو العمرية.
نص غير متزن :
مع سير أحداث المسرحية نجد أن كتابة النص وسيرورته مفتقرة جداً لأي غموض في الشخصيات، فكل شخصية واضحة المعالم كما هي دون ألغاز أو أسرار سوى التي تخبئها الشخصيات عن بعضها، والتي يعرفها المشاهد .
نجد أن الحواريات في شدة الانحطاط، فالشتائم والكلام غير اللائق هو العنوان العريض للحوار ويظهر جلياً أن ذلك مبتذل، وأن كاتب النص عمر دهبي كان يتخبّط في أثناء كتابته لحوارياته، وتلقائياً سيحدث معه هذا؛ لأنه استعار شخصياته من كتًاب آخرين ونسخها على مسرح نقابة الفنانين بحلب، هذا التخبط كان واضحاً، كما كان التخبّط على ظهر تلك السفينة.
حلبة مصارعة :
مع كل هذا التخبط في السيناريو والأداء نصل إلى تحول خشبة المسرح إلى حلبة مصارعة، فقد تحولت المسرحية مع انفراد كل ممثل وعدم التزامه بالكلام المكتوب على الورق، وخروجه عن النص من خشبة مسرح إلى حلبة مصارعة، ومع دخول أفراد العصابة (التي صورها لنا الكاتب وهي بحالة شديدة الغباء ) معتمداً على (كاراكتر) الممثل سيف الدين صابوني الضخم لإضحاك المشاهدين في دور “زلط” واللباس الذي كان يرتديه الممثل أحمد عزيزة بدور أبو موتة زعيم العصابة دون أي دراسة عميقة (للأكشن ) الذي كان من الممكن أن يقدم بدل غباء العصابة .
فرأينا كمية هائلة من العنف والضرب والقفز والتهور على (الحلبة ) لننسى أننا في حضرة المسرح أبو الفنون .
ومع أننا بحاجة ماسة لتعليم الأطفال، الذين كانوا يحضرون العرض، الابتعاد عن العنف الذي شاهدوه بأفظع حالاته خلال سنوات الحرب في بلادهم، إلا أن الكاتب ومن خلفه مخرج العمل جعلا من العنف والضرب السمة الأساسية للسخرية
والتهريج الذي لم ينقطع طيلة العرض، وقد كان الصراخ بل الصراخ الشديد الذي وصل لحدود (الولولة) والذي دبّ في نفسي أنا شخصياً الرعب والأذى السمعي، وقد تولت الممثلة سلاف كرز الدور الرئيسي في (الولولة ) إذ كان سيغشى عليها مغمية في إحدى اللقطات، وقد تاهت عن النص ونسيته تماماً، فما وجدت إلا تقبيل الأستاذ محمد جعفر من خده مخرجاً للورطة التي حلّت بها .
وكما سلاف كرز انتهج باقي طاقم العرض الصراخ العالي الذي أصمّ الآذان عن سماع الحوار، وكانت تظهر آثاره على الوجوه المحمرة للممثلين والعرق، والتي أثخنت وظهرت للعيان، فقد كان سباقاً لمن يقدر أن يصرخ أكثر في فوز بالتصفيق .
الافتقار للكوميديا والخيال :
مع كل ما سبق لم أجد أي دور للكوميديا الحقيقية التي أتخمت بها مخيلتي قبل دخول المسرح، فالواقع الذي رأيته إنما هو مزيج من السخافة والكلام البذيء الذي ترك لكل ممثل حرية قوله دون رادع (ولأنه من نجوم الصف الأول المسرحي بحلب ) فإن ذلك كان مبرراً لهم، فابتداء بالأستاذ محمد جعفر الذي ما فتئ بالتشبيه بين العين والمؤخرة في ألفاظه، والأستاذ عمر دهبي وحكمت أسعد .
وقد كان واضحاً وجلياً الإحراج على وجه ونبرة صوت الممثلة فرح فندي والذي أربكاها قول كلمة (….) عوضاً عن كلمة (بتجي) في دورها لشخصية سونامي الخادمة الآسيوية، وانتهاء بالأستاذ بسام الهيب، وقد كان واضحاً بأن دوره (جنسي ) بامتياز، فهو الرجل الخمسيني الذي ما يزال يحلم بأنه شاب ويأخذ معه عشيقته (فيفي) التي جسدت دورها الممثلة سلطانة …وقد كان المشهد الأكثر استفزازاً لي هو الاحتقار لشخصية أبو عبدو تاجر الأغنام الحلبي، حينما شرح للكوميك مطيع بأنه يشرب ويغسل وجهه من التواليت الإفرنجي (البيديه) بدلاً من المغسلة، وذلك فقط لإضحاك الجمهور الذي غشي عليه من الضحك دون الالتفات إلى أنه جعل من الحلبي الأصيل ذي اللباس الحلبي الأصيل والذي يعرض على خشبة حلبية أصيلة، جعله مهزلة وإنساناً في قمة التفاهة والجهل، وهو الشيء الذي يتنافى تماماً مع الشعب الحلبي (المعدّل) .
لقد كانت الإيحاءات الجنسية واضحة جلية تماماً في كل الحواريات والحركات، فتقبيل الأيدي والضمّ والكلام الجنسي لم يغفل لحظة عن كل تفصيلة من كل حوارية في المشاهد جميعها على عين وسمع الأطفال المتواجدين، وعلى عين وسمع النخبة المثقفة التي كانت تحضر والهدف الأول والأخير إضحاك المشاهدين.
نهاية فاشلة :
وكما كل المشاهد كانت الخاتمة ونهاية الرحلة والمسرحية فاشلة، فقد تم الكشف عن أفراد العصابة واختلاق قضية لتهريب الآثار لم يمهد لنا الكاتب في خضم التهريج المستمر في حقيبة العصابة الهزلية، لتتحول ودون مبرر أحداث المسرحية إلى مسرحية بوليسية غير الذي كنا نبنيه في مخيلتنا عن النهاية من تراكم المشاهد وكأنها مسرحية أخرى تماماً حيث يظهر الطباخ بيومي، والذي جسد دوره الممثل أحمد حمزة ببراعة ضابطاً للشرطة يلاحق العصابة ويراقبها .
وقد تم إفراغ المسرح من الممثلين بحركة واحدة، وهي حركة الاعتقال، ليبقى كاتب المسرحية ومخرجها والأستاذ محمد جعفر في اللقطة الأخيرة…حيث نرى الأستاذ محمد جعفر وهو يقول ما هو شبيه بالمونولوج والذي اختفى تماماً عن الحوا، ليعطينا زبدة الفكرة وطرحها لمفهوم المسامحة، والذي لم يتطرق لها الكاتب والمخرج لا بكلمة ولا برمزية ولابشخصية، وإنما أعطانا إياها بكلمات بسيطة جدا قالها الأستاذ محمد جعفر ليحظى بالتصفيق بعد الإعتام .
نهاية: لا بد لي من الإشادة والتقدير والاحترام للمجهود الذي قدمه الممثلون الرائعون أمثال نور عزو في لعب دور الكوميك مطيع وإبراهيم غباش والذي أسبغ اللهجة البدوية على شخصية الحارس الأمني حسان دون أن يسيء للحالة البدوية في مجتمعنا، وقد أخبرت من مصادر أنه هو من أسبغ على الشخصية تلك الحالة، كما لعب أحمد عزيزة دور زعيم العصابة على أتم وجه، وكان الزخم الموجود في صوته لازماً لدوره ،وقد كان في أحد اللقطات يبكيني بأدائه لولا الموسيقا المضحكة التي رافقت حواره، كما أتقن أحمد حمزة دور الطباخ بيومي والذي أيضاً هو من صبغ الدور بحلة اللهجة المصرية الجميلة، كما أبدعت الممثلة فرح فندي في دور الخادمة سونامي على قصر حوارياتها، ولكن كان لها حضورها على المسرح .
في الخاتمة كل الرجاء في أن نرفع من سوية النصوص المقدمة للجمهور، فهو جمهور يستحق أن نعتني بالكلمة الموجهة إليه، وهو جمهور مثقف على مختلف طبقاته الاجتماعية والمالية والمهنية والحرفية، كفانا تهريجاً واستهزاء بعقولهم إرضاء للمنتج الذي يريد أكبر قدر من الأموال والأرباح على شباك التذاكر، وإن كان ولا بد أن نطرح المسرح التجاري فعلينا أن نطرح المواضيع والأفكار والهموم الاجتماعية التي تهم الناس، وسورية وما شهدته خلال فترة الحرب وما قبلها مليئة بالحكايات والقصص والأفكار التي يمكن أن نضعها في قالب كوميدي تجاري، فالثقافة والفن هما منبرا المجتمع ولسان حاله الناطق .