الضمير الحي سبيل الخير  

بقلم: الدكتور ربيع حسن كوكة

ولا خيرَ في نَيْل الحياة وعيشِها

إذا ضاعَ مِفتاحُ الضمائرِ وانمَحَى

ألستَ ترَى أن الحُبوبَ ثَخينةً

تحُولُ دقيقًا كلما تطحنُ الرَّحَى

خلق الله تعالى الإنسان وجعل فيه فطرةً وغريزةً وضميراً، أما الفطرة فليستمع إلى نداء الحق والفضيلة ولتهديه إلى خالقه قال تعالى{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}[الروم:30] وقال صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة) رواه الشيخان. وأما الغريزة فلكي يحافظ على استمرار نوعه وتكاثره قال تعالى: {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً}[الفرقان:54]، وأما الضمير فلكي يميّز بين الخير والشر ويندفع نحو الطريق القويم قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7-8]

الضميرُ هو ذلك الشعورُ الإنسانيُّ الباطنيُّ الذي يجعلُ المرءَ رقيبًا على سُلوكه، ولديه الاستِعدادُ النفسي ليميزَ الخبيثَ من الطيب في الأقوال والأعمال والأفكار، واستِحسان الحسن، واستِقباح القبيح. ويتمثّل هذا كله بدايةً في ضمير الفرد وصولاً إلى ضمير الأمة الجمعي.

وهذا الضمير قد يتعرض للزيادة وقد يتعرض للنقصان إنه كالنبتة الخضراء فما دمت ترعاها وتسقيها فهي تنمو وتقوى، وأما إذا أهملتها فإنها تضعف وتزبل وتموت، والضمير إذا نمى وقوي يدفع صاحبه إلى النجاح والفلاح وفعل الصالحات، وضعف الضمير مؤشر على هلاك صاحبه ودماره في الدنيا والآخرة.

على أنه ينبغي ألا ننسى أن الضمير يتأثر بما تتأثر به النفس فيتألّق بطاعة النفس وينمو بنماء إيمانها؛ ويخبو نوره إذا انجرفت وراء وساوسها قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:16] فإذا انساقت النفس وراء ضلالاتها فهي تُعمل بالضمير معول الهدم والانحراف، وفي حينها سوف يتحول الضمير إلى ضميرٍ ميت، وبموته لا يعد هناك رقيب يدفع الإنسان إلى فعل الخير بل يختلف تقييمه للأمور فيرى الباطل حقاً والشر خيراً.

وقد ينمو الضميرُ ويسمو قدرُه ويزيدُ ضياؤُه بعدّة وسائل أهمها: مخالفة النفس لهواها فيما لا ينفعُها، يقولُ الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:40-41] كما ينمو الضمير بدفع وساوس الشياطين والأفكار السيئة عن ساحة الذهن وينمو باستعمال الجوارح بأفعال الخير والفضيلة حتى تكونَ النفسُ مطمئنةً في كلِّ حينٍ والضميرُ يَقِظاً في كلِّ حالٍ قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي}[الفجر:27-30]

إن الضمير هو الرادع عن الأخطاء وصحوته سبب تسميةِ النفسِ باللوامَّةِ؛ وإلماحاً إلى عظيم قدرها أقسم بها ربنا سبحانه: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}[القيامة:1] حيث تقوم النفس اللوامة بمحاسبة الإنسان عما بدر منه من تصرفات؛ وفي هذا المعنى يقول التابعي الجليل الحسن البصري: إن المؤمن لا نراه إلا لائماً لنفسه، يقول: ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر يمضى قدماً لا يعاتب نفسه.

بيد أنه لا بدّ من بيان أن ضمائر الناسَ على أصناف متعددة:

فصِنفٌ ضميرُه ظاهرٌ حيٌّ، يحب فعل الخير ويتمثّل الفضيلة، ويكره الشر والأفعال المنكرة ، يهتم لأمر جاره ووطنه وأمته ويشاركهم آلامهم وآمالهم.

وصِنفٌ من الناس ضميرُه مُستترٌ لا محلَّ له من الإعراب، أي موجود ولكنه نائم وغير فاعل لسانُ حالِه يقول: نفسي نفسي. فلا يستفيدُ منه أحد من الناس، وهذا الضمير سوف يصل إلى حالة السبات الأبدي إن لم يتعرض لعملية الصحوة، وغالبًا ما تكونُ مُتأخرةً بعد الوقوع لا قبلَه، والمُنقِذُ فيها هو الوقوعُ نفسُه لا أصواتُ الناصِحين.

وصِنفٌ من الناس ضميرُه مَيْت لا يُقْبِلُ إلا على شر، ولا يأمر إلا بشر، نسي الصدق وتنكّر للخير والفضيلة، لسانُ حاله يقول: أنا ومن بعدي الطوفان. كأنه الجراثيم التي تنتعش في الأقذار.

وهذا الصنف الأخير هو سبب ويلات الدنيا وأزماتها ومشاكلها؛ هو محور الأزمة وضميرها؛ إذ رغم كل التطور الذي وصل إليه العالم إلا أنه في الوقتِ نفسِه لم يستطِع إحياء الضمير لدى الكثير من الناس بل ولدى الكثير من المُجتمعات والشُّعوب؛ لذا رأينا سيول الدماء والدمار يحل مكان البناء؛ شهدنا أزمة عالمنا ومن بعده وطننا العربي الكبير ثم وطننا الغالي الذي نتنسّم هواءه سورية.

إن العالم بأسره بحاجة إلى ضمائر حية وأصوات مخلصة؛ يحتاج إلى أيدٍ تنتشله من أوحال الفتنة ومهاوي الدمار، وسراديب الأزمات المظلمة، وإنه لن يستيقظ ضمير الأمة إلا بيقظة ضمائر أفرادها، ولا يُمكن أن يكون في واقع الناس قضايا مُشتركةٌ في العدل والظلم؛ القوة والضعف، الغنى والفقر، الإيمان والفِسق، إلا وله صلةٌ وثيقةٌ بيقَظة الضمير، أو غفلته.

لنصلح أنفسنا ولنحيي ضمائرنا علّ الله يخرجنا من أزمتنا.

=====

بإمكانكم متابعة آخر الأخبار و التطورات على قناتنا في تلغرام

https://t.me/jamaheer

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار