جـــــاءنــــــا الآن مـــــا يلـــــي

بقلم عبد الخالق قلعه جي

 

على مقاعد الدراسة كنا في ذلك السادس التشريني من عام ألف وتسعمئة وثلاثة وسبعين.. يومها، لم تكن تلك الأحداث التاريخية تنقل على الهواء مباشرة كما هي الآن.. كانت الراديو – إذاعة دمشق – هي من تتولى الأخبار العاجلة.. “جاءنا الآن ما يلي” أدلى ناطق عسكري بما يلي.. وإلى أن شاهدناه عبر التلفزيون، كنا نرسم بالمخيلة العطشى صورة ذلك السوري العظيم الذي غرس راية الوطن على ذرا جبل الشيخ فاتحاً يده إلى الشمس والمدى.. والرأس إلى السماء رافعاً.

 

وبقدر ما صنع تشرين وأسقط من مُحال، بقدر ما كانت دوائر البغي والشر توغل في حقدها الأسود ومخططاتها التي ما انقطعت.. للنيل من هذا البلد وإجباره على التنازل والرضوخ.. الأمر الذي لم يكن في أبجدية الوطن يوماً من الأيام، وهو العزيز الذي طالما رفض أن يطأطئ الرأس لغير الله والشهداء.

 

تشرين في ذاكرتي، وملاجئ أبنائك، لم تكن أقبية.. إنما أسطحة المنازل..  تشرين في ذاكرتي، ورزنامة الأحداث، تسجل كل ما تعرض له الوطن من حروب مستعرة مستمرة، مختلفة الأشكال والألوان والأجيال، منذ على سمائه فتحتُ عيني وحتى أزمنة ال “عــــاجــــل” التي عادت تملأ الشاشات هذه الأيام.

 

ليس المهم فقط كما أنت تفكر، ولا بم، وليس فقط بما تحمله من نبل وأخلاق.. الأهم أن تعي من هم الآخرون.. كيف هم يفكرون.. وبم ولماذا و… ؟ الأهم أن تفكفك تلك الشيفرة التي تقوم عليها بروتوكولات البقاء والصراع والموت في هذا العالم، وما أضمرته بكل الدهاء والخبث ذات سنين بعيـــدة جداً، تلك الأصابع العميقة الخفية.

 

بمفهومه وأبعاده.. لا يعود مصطلح “الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد” إلى ” رايس” 2005 ولا إلى عام 1992 عندما طرحه “برنارد لويس” والذي أعيد تبنيه عام 2007 تحت عنوان “حدود الدم”..  مصطلح لا يعود أيضاً إلى عام 1957 ما عُرف بمبدأ ” أيزنهاور” ولا حتى إلى سايكس بيكو عام 1916.. الشرق الأوسط هو “قوس الأزمات” ومن يسيطر عليه يسيطر على العالم.. إنه بالعين البصيرة يعود إلى عام 1897 في بال بسويسرا وما كان هناك.

 

الحديث عن هذه المعرفة، يقتضي أكثر التركيز على أهمية حفظها وتوسيع دوائرها وإغنائها، واستمرار استحضارها وتحديثها أولاً بأول.. لتكون بحق تلك الذاكرة، التي تنجلي الصورة عبرها، ويكتمل مشهد الوعي لما يحاك ويجري من مخططات الهيمنة والـ (مؤامرة) دون سخرية وتسفيه دلالات.. ومعها تأتي القراءة في سياقها الأشمل استشعاراً وكشفاً مبكراً وإعداداً.. يدرأ أي خطر قد يطال الجذور ويهدد الوجود.

 

لا توقعات بقادم لعرَّافين هنا أو منجمين هناك.. ولا تنبؤات.. إنما هي ما شاؤوا أن يسرِّبوا.. ويمهدوا له ويسوِّقوه.. هو ذا ما يقوله التاريخ والقراءة التي ننشد.. وهكذا يفعلون.. بلا كلل أو ملل.. لا مزاحاً ولا تزجية وقت.. إنهم لا يلعبون.. “أعيدها”. ونشهد لهم فظاعة التفنن فساداً في الأرض.. مكراً.. فتناً.. آثاماً وشروراً وإج*راماً.

 

بفعل تلك التواريخ السوداء، وفي ليلة الخمسين من ذكراها المجيدة.. كانت دماء شهدائنا في الكلية الحربية وتراتيل قسمهم لمّا تزل إلى السماء تعرج، وقد أبروه.. لأرواحكم السلام والوفاء.. دماؤكم في أعناق الرجال أمانة، ولن تذهب هدراً.

 

في مقالتي السابقة “ليس مرة كل عام” قلتها “هي هكذا والله.. كل متكامل والعيون لَيْتَها، إلى مهبط اسرائك ترحل كل يوم.. وإنني أصلي”. لعلها ما بعد الخامسة ولعلها القراءة.. قراءة ما لا يطاق، وقد به الصدر ضاق.. لقد لامست نخوتهم..  تشرين وأطفال الحجارة قد أعدوا وصاروا للأقصى طوفان.

 

هو تشرين يا أيها المارون بين الكلمات العابرة يقول.. لنا ما ليس يرضيكم.. وبأس*لحتكم آن أن نح*اربكم.. لنا المستقبل، ولنا في أرضنا الشهداء نزرع.. لا والضحى والليل إِمَّا سجى.. سترجع الأرض إلى أهلها، والمسجد الأقصى إلى ربه.. مزدهياً بالركَّع السجَّد، وستشرق الشمس على أمة.. لغير وجه الله لم تسجدِ.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار