بقلم عبــــد الخــــالـق قلعــــه جي
بحكم طبيعتنا البشرية، وربما باللاشعور أو بحكم العادة والاستسهال، يميل البعض أو يرتاح أكثر لما قد تأخذه إليه ظروفه دون أن يتدخل أو يكون له يد فيها، كيلا يحمل نفسه مسؤولية قرار يتخذه أو اختيار، ويجنبها – ربما – أسفاً أو لوماً تفرضه تبعات ذلك ونتائجه.
لعلها ملازمة لنا دائماً هذه الحيرة.. نختار هذا الاسم للمولود أو ذاك.. نلحقه بالحضانة إن استطعنا والروضة أم ندرسه في البيت وبلا “ها لمصاريف”.. المدرسة.. بين الخاصة والعامة.. بين هذا المعهد للبكالوريا وذاك.. تستمر هذه الـ “أَم” ومعها حلقات المسلسل بعروضها الجديدة والإعادة. أي فرع في الجامعة نسجله.. نكتفي بقبوله في العام أم نذهب باتجاه الموازي والخاص.. ونستمر في كل محطاتنا الحياتية الأخرى مع محطات الاختيار هذه والاختبار.
ورغم اجتيازي الكثير من هذه وتلك عبر مراحل متعاقبة.. إلا أنني ومع المشوار الصباحي باتجاه “البلد” أي مركز المدينة، أكون مع هذه الحيرة الآنية كل يوم.. هل أستقل باص الجنوبي أم الشمالي.. الجنوبي، مقعد الجلوس سيكون متاحاً لكن وقته أطول.. أما الشمالي فغالباً ما ستقضي مشوارك وقوفاً لكنك تصل متأخراً أقل.
حزمت أمري وحسمته باتجاه موقف الشمالي.. غالباً ما أحاول تقدير مكان توقف الباص – الذي لم يتأخر كثيراً – علِّي أكون أول الصاعدين.. باقة من صبايا كن ينتظرن أيضاً في ذلك الصباح فأفسحت لهن الصعود أولاً.. اغتنم الفرصة بعض الشباب أو استغلوها فصعدوا أيضاً، وصرت الراكب الأخير بامتياز.
صبَّحت على السائق ونقدته الألف ليرة التي كانت تعمل “عمايل” في وقت ليس بالبعيد كثيراً.. وأنا الذي كنت أدفع قيمة تذكرة الباص في مراحلنا الابتدائية.. خمسة قروش سورية ( فرنك سوري فقط ).. (اسق الله هديك الأيام)… “اسمحوا لنا صبايا”.. “شوي لو سمحتوا يا شباب” كنت ارددها وأنا أمر من بينهم عابراً إلى القسم الخلفي من الباص.
درجتان هناك تجعلانك تشعر بعودة الروح والاعتبار لديك.. ومعها يتاح لك أن ترصد المشهد من علٍ.. الجميع أيضاً يفعل ذلك.. كل حسب ما تصل إليه عيناه.. القاسم المشترك بينهم وقوفاً وجالسين هو ذلك الموبايل الذي لا يغادر عيناً ولا يداً.. هذا منشغل بلعبة، وتلك تتابع مقاطع والسماعات في إذنيها.. ثالث يتصفح ما ورده من رسائل، ورابع يبدو أن باقة موفورة الدقائق لديه راح – بعُلُو صوته – يطرب الركاب بتفاصيل محادثته الطويلة وليختم “سَكِّرْ هلق.. خمس دقايق بوصل لعندك ومنحكي”.. وكأنه كان صامتاً طوال المكالمة.. ولله في خلقه شؤون.
الحال هذه أكاد أجزم بأنها لا تستثني راكباً من واقفين أو ذوي الحظ الكبير من الجالسين، الذين يرفعون الرأس بين الحين والآخر ليتابعوا آخر تحديث لكثافة الازدحام وتموضع الركاب، مَنْ يتهيأ للنزول ومن أصبح بجوارهم واقفاً.. بعض – وللأمانة – يقدم مكانه لصبية وأم طفل وسيدة وكبير سن.. بعض آخر يشاورون أنفسهم.. وآخرون لا من هؤلاء ولا من أولئك.. يجعلون أصابعهم في أعينهم ويستغشون موبايلاتهم، مُعْرضين متبسمرين بمقاعدهم بكل تبلد وبرود، ليُمضوا بقية مشوارهم دون أن ينغِّص أو يقضَّ أحدٌ مضجع مروءتهم وضمائرهم.
في بعض الأحيان تعترينا حالة من تكلس آني، تطغى على ما فُطرنا عليه من مفردات الأَثرة والواجب وتفاصيل التعامل مع الآخرين، والتي ترسم سلوكنا فنذهب إلى فعل “التطنيش” هذا، دون أن نقع تحت وطأة عتاب الضمير ولومه ووخزه وعذابه.
حالات نمرُّ بها في بعض أحيان.. إن كانت عابرة واقتصرت على مقعد الباص فتلك ” مقدور عليها ” في أن تبقى ” تحت السيطرة ” أما إن تدحرجت وبدأت نبضات الضمير تخفت وتستطيب غفوة ونوماً وتستسلم لسبات أو تَمَوُّت، فذلك لعمري نذير خطرٍ وشرٍ مستطير، خاصة عندما تبدأ هذه الحالة بالتحول إلى ظاهرة وسلوك يطال العادات والتقاليد النبيلة، ويتصل بالعناوين العامة والمجتمعية والوطنية.
أما وقد حملها الإنسان، فإن ثمة فريضة ستؤدى وضريبة ستدفع في كل الأحوال، أزكاها تلك التي بكل الحب والسماحة والرضا تكون معزوفة على إيقاع مطرقته وسندان الروح، يتردد صداها في أرجاء محاكمنا الشخصية، ارتقاءً لإيمان وإحسان ومحبة، يحمي الضمير من أن يكون مستتراً أو غائباً أو ميتاً، ونتسامى ما استطعنا به إلى ذلك الحضور البهي.. حضور الله “سبحانه” في الإنسان.