الصحفي اللبناني سركيس أبو زيد للـ (الجماهير) : الإيمان العميق بالسيد المسيح وبالمسيحيّة هو الذي دفع المطران كبّوجي إلى هذا الخيار المميز ! معاناته مع رعيّته من الاحتلال وتحسّسه مشكلاتها ومآسيها هي التي دفعته إلى المقاومة !
الجماهير – بيانكا ماضيّة
“أن تكون سوريّاً يعني أن تحمل فلسطين في عقلك وفي قلبك” هذا هو المبدأ الوطني القومي عند المطران المقاوم إيلاريون كبّوجي الذي قاوم الاحتلال الصهيوني بكل ما أوتي من قوة وإرادة صلبة وفهم عميق لمعنى الانتماء الحقيقي لفلسطين المحتلة، ولهذا الانتماء ولهذا التحدّي اللذين أشرقا في مواقفه المناهضة للاحتلال، تم سجنه واعتقاله من قبل السلطات الإسرائيليّة أثناء إقامته الكهنوتيّة في القدس ودفاعه المستميت عنها.
خرج من السجن حاملاً ذكريات مؤلمة فيه، ولكن كيف تعرف الأجيال والشعوب المقاومة ماقام به هذا الرمز ؟!وكيف تعرف ماتعرّض له إن لم يكن هناك تدوينٌ لهذه الذكريات؟! نعم الكتابة وحدها هي التي حفظت وتحفظ للأجيال المواقف والأحداث التاريخيّة، وهذا هو العمل الصحفي الحقيقي الرائع الذي قام به الصحفيّان سركيس أبو زيد وأنطوان فرنسيس بعد لقاءاتهما المتكررة للمطران بعد خروجه من السجن، وتسجيلهما تفاصيل تلك الذكريات، هذه اللحظات التاريخيّة التي كانت الأساس والمنطلق لكل مانقرؤه ونشاهده اليوم عن (حارس القدس). وتمّت طباعة المذكرات في كتاب (المطران إيلاريون كبّوجي.. ذكرياتي في السجن) بعد وفاته، وصدر الكتاب عن دار أبعاد عام 2018، وفي عام 2019 أعيد طبع الكتاب بنسخة ثانية بالتعاون مابين دار دلمون للنشر والتوزيع بدمشق ودار أبعاد، وقد أقامت إدارة دار دلمون ممثلة بالسيدة عفراء هدبا بحفل تكريم للمطران كبّوجي، وفي لقاء “الجماهير” معها لتتحدث عن موجبات إنتاج طباعة ثانية للكتاب وحفل التكريم من قبل الدار، أشارت إلى أنه “إيماناً من دار دلمون بأهمية المشروع الثقافي المناهض، ودوره في دعم حركات التحرر ضد جميع أشكال التعديات التي يتعرض لها الوجود الإنساني في عالم متصارع تتنازعه مراكز القوى في العالم، كان عملنا كدار نشر على ترجمة هذه الرؤية، من خلال التصدي لأعمال ذات قيمة فكرية وجدوى إنسانية، من شأنها الارتقاء بالمجتمع والإسهام في بناء العقل بما يخدم حركة التطور الإنساني المستمرة..من هنا كان اتجاهنا في دار دلمون الجديدة إلى إنتاج الطبعة الثانية من مذكرات المطران المقاوم هيلاريون كبوجي، وإطلاقه في حفل توقيع وتكريم ضمن فعالية حرصنا خلالها على عقد ندوة فكرية حول السيرة الذاتية المطران كبوجي وسيرته النضالية، وماتخلّلها من محطات مشرقة سجلت انتصار الحقوق الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية التي آمن كبوجي بعدالتها، وكافح من أجلها، وواجه ظلام السجون وعذابات المنافي والاغتراب القسري الذي فرض عليه، وفي إطار عملنا التوثيقي قدمنا إلى جانب المذكرات فيلماً وثائقياً رصد بعين الكاميرا الوقفات النضاليّة المشرّفة للمطران ومواقفه المبدئية التي وهب لها حياته وقلبه حتى آخر أيامه.
وتتابع: “اليوم ونحن نتابع أحداث مسلسل حارس القدس نستطيع أن نقول إن حصادنا كان وفيراً، إذ استطعنا أن نقدم مرجعاً ثراً لصنّاع المسلسل من خلال المذكّرات الشخصيّة للمطران التي خصّ بها الإعلاميَين أنطوان فرنسيس وسركيس أبو زيد، وإليهما يعود الفضل في خروجها إلى النور. ولن يكون حفل تكريم المطران كبوجي من قبل دار دلمون وتوقيع المذكرات في مكتبة الأسد بدمشق هو الأخير، إذ نزمع على إقامة فعاليات أخرى للغاية نفسها في حلب ومناطق مختلفة، كلما دعانا الواجب الأخلاقي والوطني النبيل؛ لتعزيز حضور رموز نضالنا ضد قوى الشر والعدوان، وإعادة القضية الفلسطينية إلى واجهة الحدث كعنوان للكرامة العربية التي تهدر اليوم بفعل مشاريع التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، مايضعنا أمام مسؤوليتنا الوطنية والقومية والمهنية لاستكمال مشروعنا الثقافي في دار دلمون الجديدة التي تعدكم بالمزيد”.
إن مفهوم الانتماء الوطني القومي هو الذي حدا بالمطران إلى المقاومة، وقد كان مجسّداً حقيقيّاً وسبّاقاً ب19 سنة، لمفهوم “لاهوت التحرير” الذي صدر عام 1986 عن الفاتيكان، وقد جاء فيه أنه “في حال تعرض شعب ما للظلم مدة طويلة يصبح من الطبيعي في نهاية المطاف، وبعد استخدام كل أشكال المقاومة غير العنفيّة، أن يلجأ إلى السلاح شرط عدم تعريض الأبرياء للظلم” ويشير الدكتور حسن حمادة (مقدّم الكتاب) إلى هذا الانتماء في كلمته التي ألقاها في حفل التكريم بالقول: “ماذا يعني أن تكون سورياً؟! موضوع كان يطرحه معي دائماً ويسترسل في شرح معنى الانتماء لسورية، سورية أعظم مصهر للثقافات والأعراق والإثنيات والأديان واللغات، صقلت العربية بألوانها الأخاذة وجذورها المتنوعة، ما أولد العروبة الحضارية التي شع نورها وتألق، فصارت هي المنارة الجذابة والبوصلة المضمونة التي لا تخطئ السبيل القومي. ضمن هذا المفهوم كانت قناعة المطران كبّوجي بسوريّته تحمل دعوة للناس، كل الناس، إلى التأمل مليّا بهذا المصهر الحضاري العظيم الذي هو نقيض لكل العنصريات ومنها العنصريّة الصهيونيّة بخاصة”.
لهذه الأسباب مجتمعة تم تسجيل الذكريات، وتم الاحتفاء بهذا الدور البطولي للمطران إيلاريون كبّوجي، وللوقوف على مجريات هذا التدوين للمذكّرات، كان للـ(الجماهير) حوار خاصّ مع الصحفي اللبناني سركيس أبو زيد، رئيس تحرير دار “أبعاد” للطباعة والنشر، وهو الذي قام وصديقه الصحفي أنطوان فرنسيس بتسجيل المذكرات من فم المطران كبّوجي نفسه، وإليكم تفاصيل هذا الحوار:
مناسبة كتابة المذكّرات مناسبة جليلة!.
بعد خروج المطران كبوجي من سجن الرملة وإقامته المؤقتة في دير جمعية راهبات الصليب في روما..كان اللقاء بين الصحفي سركيس برفقة الصحفي أنطوان فرنسيس أيضاً وطرحهما عليه موضوع توثيق ذكرياته في السجن.. عن هذا اللقاء وكيف ينظر إليه اليوم بعد كل هذه الفترة الطويلة، يحدثنا أبو زيد”: بعد خروج المطران كبوجي من السجن بناءً على الاتفاق الذي تمّ بعد إضراب طويل للمطران اضطر خلاله الكيان الإسرائيلي على القبول بخروجه من السجن. سافر المطران في المرحلة الأولى إلى أمريكا اللاتينية، وفي المرحلة التالية عاد إلى روما، وأقام في دير راهبات الصليب. التقيت به هناك لأن عمتي كانت رئيسة الدير، فكنت كلما أزورها في روما، ألتقي بالمطران كبوجي، ونقضي فترة طويلة..كذلك عشت فترة في باريس، وكان المطران حين يأتي إلى باريس أقوم باستضافته في منزلي، وهكذا تشكلت علاقة عائلية ودية بيننا وبينه، وتوطدت فيما بعد.
أما تجربتي معه بالنسبة للمذكرات فهي أولاً تجسيد لصداقة طويلة، فأنا وأنطوان فرنسيس صحفيّان عشنا مرحلة الطفولة معاً، وعملنا في الصحافة معاً، وعشنا فترة عمر طويلة معاً، لذلك فإن عملنا مع المطران هو تجسيد لهذه الصداقة والزمالة والإخوة التي مرت عبر السنوات.. ونحن كشخص واحد تعاونا في أكثر من مجال وعمل، ولكن من أهم الأعمال التي قمنا بها معاً هي مذكرات المطران كبوجي، حينها كان أنطوان يعيش في لندن، ويعمل في صحيفة (الشرق الأوسط) ولهذا السبب تداولنا الموضوع، وعرض عليّ الفكرة، إذ كانت الفكرة في البداية نشر هذه المذكرات في الصحيفة التي يعمل فيها أنطوان. ومن ثم جاء إلى روما؛ لنجري المقابلة الطويلة مع المطران، علماً بأن المطران في البداية لم يكن موافقاً على الموضوع، لأنه لايحب أن يتحدث عن نفسه في هذا المجال. وهنا أحبّ أن أقدم شهادة في أن المطران شخص صلب، صاحب مبدأ، ولكن ليس لديه نرجسية وحب الظهور، ولم يكن يعنيه أن يُحكى عنه في الإعلام، كان يستفيد من الإعلام لأجل الدفاع عن القضية، ولشرح فكرته وقضيته، أكثر مما كان راغباً في الحديث عن نفسه فيه.
ويتابع بالقول: ركّزنا في حديثنا مع المطران على أن كتابة المذكرات ضرورية؛ لتوثيق تجربة مهمة تطلع عليها الأجيال القادمة، فتكون على اطلاع بما قام به فتستفيد من هذه القدوة.. وبعد حوارات طويلة اقتنع المطران بموضوع تسجيل المذكرات التي هي في قسم منها مسجّل، إذ خلال فترة أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع وبشكل متواصل، سجّلنا معه مجموعة مقابلات على كاسيتات مازلنا نحتفظ بها إلى الآن. وقسم آخر هو توثيقي جمعنا فيه كل رسائله التي أرسلها من السجن، وكذلك ما كُتب عنه. إذ كان من الضرورة، ولتنشيط الذاكرة، التذكير ببعض الأحداث. لهذا السبب كانت المذكرات تجمع مابين هذا التوثيق الذي وضعناه بين يديه والذي اختاره هو بنفسه، وركز على الجوانب التي يريدها، إضافة إلى أننا اكتفينا بالمذكرات بأن تنتهي مع خروجه من السجن بدون الحديث عن نشاطاته التي قام بها فيما بعد خدمةً للقضية الفلسطينية وشرحاً لها.
بعد أن قمنا بتسجيل المذكرات انتقلت أنا وأنطوان إلى لندن، وقضينا فترة طويلة في تفريغ الأشرطة واشتغلنا عليها، وأعاد أنطوان صياغتها وتنقيحها وعرضناها على المطران كبوجي، إذ اطلع على الوثيقة الأساسية من المذكرات، بصيغتها الأوليّة، ووضع بعض الملاحظات عليها، ثم تم إعادة تعديلها بصياغتها النهائية، بما معناه أن المطران اطلع على المذكرات بشكل كامل بكل تفاصيلها. ولكن ماحصل آنذاك أن الفاتيكان عرف بموضوع المذكرات وأنها ستخرج إلى النور، فاتصلوا به وطلبوا منه عدم نشرها، ففيها ما اعتبره الفاتيكان تخلياً عن الاتفاق، لذلك طلبوا منه عدم نشرها، وعدم نشر أي شيء على لسانه. ومن هنا، ولأن المطران كان مطيعاً للسلطات الكنسية، ولم يكن يود أن يحصل أي تناقض أو خلاف معها، قبِل بتأجيل عملية إصدار المذكرات، علماً بأن اتفاقاً مسبقاً حصل مع دار فرنسية لإصدارها باللغة الفرنسية أيضاً. من هنا طلب منا تأجيل طباعة الكتاب إلى أن تسنح ظروف أخرى لطباعتها، فقد أشار لنا إلى أنها في عهدتنا وبإمكاننا التصرف بها كيفما نشاء بعد وفاته. وهذا ماحصل.
ما أريد أن أقوله هو أن أموراً يقوم الإنسان بها في حياته فتترك بصماتها، ولولا هذه المذكرات لما عرفنا أموراً عديدة تخصّ شخصيّة المطران كما ظهرت لنا اليوم. من هنا كانت مناسبة كتابة المذكرات مناسبة جليلة، مازلت أتذكّرها جيداً، أتذكّر تفاصيلها، فلو لم يتم تسجيل هذه المذكرات لخسرنا الكثير من الحقائق التي كان المطران محتفظاً بها. لذا لا أنسى هذه المناسبة؛ لقد كانت لحظة تاريخية جعلتنا نقوم بعمل تاريخي مع المطران، يعرف المرء الآن قيمته وأهميّته بعد كل هذه الفترة الزمنية الطويلة. وأعتقد أنه من المهم جداً أن نكون قد قدّمنا شخصيّة كشخصيّة المطران بشكل حقيقي وفعلي، حتى تكون قدوة للأجيال والشباب ولشعبنا الذي هو بحاجة لبطل ولتجارب ولقدوة، والمطران يمثل هذه القدوة.
الدور المسيحي الحقيقي!
شخصيّة المطران كبّوجي البطوليّة النضاليّة، لابد من أن تترك انطباعاً وأثراً في نفس جليسه ومعارفه، فماذا تركت شخصيّته في نفس الصحفي سركيس؟! ويجيبنا: دعيني أقول إن شخصيّة المطران هي شخصيّة محبّبة، وصاحب مبدأ، مرِح، يغلّب العلاقات الإنسانية. لديه علاقة وديّة ومُحبة مع الناس؛ وعلى الرغم من أن طبيعة شخصيّته المتحديّة – والتي قامت بعمل تاريخي، بعمل بطولي كبير جداً، إذ تحدى أكثر دولة عنصرية وأكثر دولة ديكتاتورية تمارس التمييز العنصري- كان يعيش حياة فيها الكثير من الزهد، والكثير من الإيمان والبساطة والعفويّة، ولأنه شخص مبدئي، يريد كل شيء أو لا شيء، دافع عن مبدئه وعن فكره حتى آخر لحظة. كان باستطاعته أن يعيش حياة فيها من البذخ والترف والتنعّم الكثير، كما يعيش اليوم الكثير من رجال هذه الدنيا، بينما هو اختار حياة كانت الأصعب بالنسبة إليه كفرد، لكن هذه الحياة هي التي جعلته يترك بصماته في التاريخ.. لهذا كانت النقطة الأساسية التي مازالت تترك لديّ انطباعاً واعتباراً له هي أنه شخص مؤمن جداً، وشخص يحترم الكنيسة والسلطة الكنسيّة، لكن لديه وجهة نظر، يوافق عليها بعض رجال الكنيسة أو قسمٌ كبير منهم، والبعض الآخر لايحبذها كثيراً؛ لأنه لايعرف طبيعتها وأبعادها لأنه لم يعشها!..
ماهي تلك الرؤية ووجهة النظر؟! يقول أبو زيد: كان للمطران إيمان أساسيّ ومفصليّ في أن رجل الدين هو راعٍ على رعيّته، وكثيراً ماكان يردد هذا القول ويعيده، وهو أن الرعيّة حينما تكون تحت وطأة احتلال وظلم واضطهاد ومعاناة، فالراعي لايستطيع أن يعيش في حالة ترف ولامبالاة وترقّب وانتظار ولهو وغيرها من المسائل، إذ لابد من أن يعيش حالة الرعيّة نفسها، وكل مافعله المطران هو أن معاناته مع رعيّته من ظلم الاحتلال وشعوره العميق بهذا الظلم الذي لحق بها، وتحسّسه مشكلاتها ومآسيها هي التي دفعته إلى المقاومة؛ لأنه اكتشف أن الاحتجاجات والاعتراضات والبيانات والرسائل التي كان يكتبها، لم تؤدِ إلى نتيجة، فاعتبر أنه لا يمكن أن تحقق هذه الرعيّة كرامتها وتسترجع حقها والدفاع عنه إلا بالمقاومة، لهذا السبب اعتبر نفسه أنه يقوم بالدور المسيحي الحقيقي، وهو مثل السيد المسيح حين دخل إلى الهيكل ورأى اللصوص، فاضطر إلى أن يستعمل السوط والقوة لطردهم منه، وهذا ماكان يقوم به المطران، فعندما تعيش رعيّته كل هذه الآلام، لابد من أن يقوم بكل الوسائل الممكنة لطرد الغزاة المحتلين. هذا الإيمان العميق بالسيد المسيح وبالمسيحية هو الذي دفعه إلى هذا الخيار المميز الذي لابد معه من القول إن هناك الكثير من الكهنة ورجال الدين قد قاموا بهذا الفعل، خاصة في أمريكا اللاتينية، لكن المطران كبّوجي كان السبّاق في هذا الطرح عندما جسّد مايسمى “لاهوت التحرير” والذي هو التزام رجال الدين بالدفاع عن الفقراء والمحتاجين بوجه الظلم والاستغلال، وهذا أمر طبيعي في أن يكون دور الكنيسة ودور رجل الدين هو الدفاع عن المؤمنين، عن الرعيّة، لتحقيق إنسانيتها، واسترجاع حقوقها المسلوبة، لا أن يكون هناك، كما نرى اليوم، انفصام مابين معاناة الرعيّة ومابين الممارسات البرجوازية أو البذخ أو المظاهر التي يعيشها البعض، بينما رعيّتهم تعيش آلاماً ومظالمَ لاتحصى! كل مافعله المطران هو أنه مارس مسيحيّته، كان المسيح هو قدوته، فمادام المؤمنون والرعيّة التي يمثلها ترزح تحت هذا الظلم، فلا بد أن يعيش معهم وأن يجسّد ماكانوا يرونه طريقاً للخلاص.
التجسيد الفعلي لـ”لاهوت المقاومة!
بعد طباعة الكتاب في العام 2018 بعد وفاة المطران، كان للرأي العام موقف من هذا الكتاب الذي يوثق مرحلة مهمّة تفضح الأساليب التي يعتمدها الصهاينة الإسرائيليون في معاملة السجناء، عن هذا الموقف يقول: لاشك بعد صدور الكتاب وحفل التوقيع المهم الذي أقيم في بيروت، والنقل المباشر لتلفزيون الميادين له، مشكورين، هناك الكثير من الرأي العام قد تعرّف أكثر على شخصيّة المطران، لأن هذا الجانب المهم من حياته لم يكن قد سلّط الضوء عليه، أو لم يكن معروفاً من قبل الكثيرين، ولكن بعد صدور الكتاب والاهتمام الذي لاقاه، انقسم الرأي العام إلى مستويين: أناس اهتمت وتابعت بشكل أكبر، وتعرّفت على شخصيتّه أكثر، ولكن وبكل صراحة وأسف هناك الكثيرون ممن هم معنيّون بهذا الرمز وبهذه القضيّة لم يقوموا بواجباتهم بشكلٍ كافٍ من أجل تكريم هذا الإنسان الذي نذر حياته لمبادئه المسيحية، لطريق الجلجلة الذي دله عليه السيد المسيح، فتوقعت أن يكون هناك اهتمام أكبر بشخصيّته وبتكريمه وبإبراز دوره وخاصة في الوسط الفلسطيني الذي ضحّى المطران كثيراً من أجله!.
أيّ الجهات تلك التي تقصدها؟! يجيب أبو زيد: أعتقد أنه كان مطلوباً من المهتمين أو المنظمات أو الهيئات الفلسطينية الاهتمام بشكل أكبر، وكذلك الكنيسة المسيحيّة التي لم تهتم بشكل كاف في إبراز هذا الدور المشرقي المميز، خاصة وأن الكنيسة هي كنيسة أنطاكية وسائر المشرق وأنها ملتزمة ببقاء المسيحيين بأرضهم، وحين يكون هناك شخص هو رمز وقائد كالمطران كبّوجي، يجسّد هذا البعد وهو مفخرة للمسيحيين الشرقيين، كان لابد من الاهتمام الأكبر؛ لإبراز هذا الدور البطولي، ومن ثم تكريم هذا الرجل العظيم وشرح دوره وأهميّته، وهي الطريقة الفضلى لبقاء المسيحي في أرضه، فالمسيحي الشرقي يجب أن يفتخر بالرجالات الذين قدّمهم، والذين لعبوا دوراً في تجذرهم بأرضهم، بأرض المشرق. كنت أتوقع من التيارات القوميّة والتقدميّة أن تهتم أيضاً وبشكل أكبر بهذا الشخص – الرمز، صحيح أنه شخص غير حزبي، إذ هو رجل ليس عقائدياً بالمعنى الفكري والنظري، لكنه كان مناضلاً ميدانيّاً، يحب الناس جميعهم، ويتعاطف مع المظلومين والمقهورين، وجلّ همه أن يكون هناك وحدة مجتمع، وحدة شعب، وحدة أمة لتكون قادرة على مواجهة الغزاة والمحتلين. ومن هنا كانت تربط المطران علاقات جيدة مع كل هذه الأطراف دون الدخول في خلافاتها، وفي تشقّقاتها، كان همّه أن يجمع.. وأعتقد أنه كان المجسّد الفعلي لما أسمّيه بـ”لاهوت المقاومة”، وكثيراً ماتحدث صديقي حسن حمادة عن اللاهوت القومي الذي عبّر عنه وجسّده المطران، في مقدمته للكتاب والتي كانت بعنوان (الحياة الداخلية للمطران إيلاريون كبّوجي). أعتقد أن المؤمنين بهذا الاتجاه بمختلف مراجعهم أو اتجاهاتهم العقائدية أو الحزبية كان من المفروض بهم أن يهتموا أكثر بالمطران، بتكريمه، بإبراز دوره، بشرح مواقفه. كذلك مدينة حلب التي تربى فيها وبقي حنينه إليها إذ كان لديه تعلق كبير بها، منتظرٌ منها، من شبيبتها، من كنائسها، من إداراتها أن تهتم أكثر بشخصيّة المطران؛ وأن تقام له ذكرى سنوية ودائمة، لأنه رمز وقدوة للأجيال اللاحقة، ولأنه مفخرة لأهل حلب.
الكتاب ومسلسل (حارس القدس) كانا لهما دور كبير في تعريف الناس بشخصية المطران كبوجي، والضجّة التي أثيرت حوله أعتقد تدلل على تعطش الناس لهذا الموضوع، وكذلك دور دار دلمون للنشر التي أقامت حفل تكريم للمطران بدمشق، أقول باستثناء هذه التكريمات التي أقيمت للمطران بقيت المشاريع الأخرى عابرة ولم تترك بصمات، لهذا علينا ألا نكتفي بهذه الأعمال، وإنما أن تكون هناك أعمال أكثر تدلل على دور المطران وأهميّته.
حماسة وجدل في مواقع التواصل الاجتماعي!
اليوم وفي مواقع التواصل الاجتماعي نشهد تلك الحماسة والجدل اللذين أثارهما مسلسل (حارس القدس) الذي اعتمد في كتابة السيناريو على كتاب الصحفيين أبو زيد وفرنسيس، عن هذه الحماسة وذاك الجدل يقول أبو زيد: حول عمل (حارس القدس) أذكر أنني منذ بداية العمل به، قمتُ بإرسال الكتاب بصيغة pdf قبل طباعته للمخرج والكاتب لكي يطلعا عليه، وأحيي فريق العمل وأشكرهم على هذا العمل الذي قاموا به، خاصة وأنهم في مقابلاتهم يذكرون أنهم اعتمدوا بشكل أساسي على كتاب “المطران إيلاريون كبوجي ذكرياتي في السجن” كما رواها أنطوان فرنسيس وسركيس أبوزيد، لكن لابد من القول من أن هذا العمل قدّموه على طريقتهم وبأسلوبهم، هناك أمور أعجبتني، وغيري ربما لم تعجبه، ففي كل عمل فني يكون هناك جدل، وهذا أمر طبيعي، لكن بشكل عام يشكر السيد عماد سارة وزير الإعلام السوري على إشرافه العام على العمل، وكذلك الإدارات الفنية والإبداعية التي شاركت به وأنتجته، وخاصة في شهر رمضان، إذ حاز هذه الضجة كلها. لكن ككل عمل فني، من الطبيعي أن يكون هناك بعض النقاشات وبعض الخلافات وبعض وجهات النظر، لم أتابع كل الآراء التي طرحت حوله، فمنها مايستحق الردّ عليه، ومنها ما لايستحق. لكن دعيني أقول إنه لمن الطبيعي أن يكون هناك نقاش وحوار حول دور المقاومة في الكنيسة، وهو موجود في كل الكنائس وعلى مختلف المستويات حول هذه المسألة، والأمر غير مقتصر على المسلسل، إذ له أبعاده في أمريكا اللاتينية وفي الفاتيكان، وفي مختلف المناطق حيث هناك مسيحيّون انقسموا بين من كان منخرطاً منهم في المقاومة والثورة دفاعاً عن المظلومين والمقهورين والمهمّشين، وبين من كان حليفاً للسلطة وللاحتلال. جزء من هذا النقاش واكب عمل (حارس القدس) أما الجدل فكان له بُعد حزبي أو بعد إيديولوجي أو عقائدي، إذ من الطبيعي أن يفكر كل امرئ في أن المطران مرتبط بمدرسته أكثر من المدرسة الفكرية الأخرى. ولكن، برأيي، كان المطران صاحب قضيّة، صاحب عمل حاول من خلاله أن يجمع كل المكونات، حتى تكون هناك القضيّة واحدة وهي الدفاع عن الأرض والشعب من أجل تحريره من الاحتلال ومن الاغتصاب الصهيوني. وهنا لابد من الإشارة إلى أن المطران لم يكن رجلاً حزبيّاً، لم يكن يهتم بالنظريات بقدر اهتمامه بالفعل وبالعمل، وفعله وعمله هما اللذان يوحّدان كل القوى القومية والوطنيّة والتقدمية التي تؤمن بتحرير الأرض والإنسان.
النهج المقاوم هو الطريق الوحيد لاستعادة فلسطين!
ونهاية.. عن أهميّة كتاب مذكرات المطران كبّوجي في هذا الوقت، يقول أبو زيد: تكمن هذه الأهميّة في أنه جمع جهد ثلاث أشخاص وهم أنطوان فرنسيس وسركيس أبو زيد وحسن حمادة، نحن الذين تربطنا صداقة مع المطران، وكذلك تربط فيما بيننا صداقة متينة وقديمة، فإخوتنا وصداقتنا اجتمعت لإنتاج عمل واحد، وبفضل المطران استطعنا القيام بعمل مميز جسّد محبتنا لبعضنا، وجسد إخوتنا وصداقتنا، وفي الوقت نفسه هو جزء من وفائنا لرجل عشنا معه فترة طويلة من الزمن، أحببناه وأحبّنا، ومهما قدّمنا لأجله نبقى مقصّرين، لهذا السبب أكان المسلسل أو الكتاب فهو خطوة على طريق طويلة نتمنى على جميع المعنيين أن يعتبروا المطران رمزاً وقدوةً، وأن ينسقوا فيما بينهم، لتكون له ذكرى ولادته ومماته، ذكرى سنوية يتم فيها تكريم لهذه الشخصية ولكل من يسير على هذا النهج؛ لأن هذا النهج هو الذي يجعل المسيحيّة المشرقيّة حاضرة، وتكون شاهداً على أرض المسيح، بدورها وبفعاليتها، وهذا هو الطريق الوحيد الذي يجمع الفلسطينيين على مختلف مشاربهم، فوحدتهم هي التي تقوّيهم، وهي التي تساعدهم على تحرير أرضهم، وهي دعوة لكل أبناء المشرق ولكل أبناء العالم العربي، أن تكون هذه القدوة، وهذا النهج المقاوم الإنساني الحقيقي الذي يجسّد كل هذه التطلعات، هو الطريق الوحيد لاستعادة فلسطين ولتحرير الأرض والإنسان معاً.
سيرة ذاتية للصحفي سركيس أبو زيد
مجاز في الإعلام عام 1974، من خبراته إدارة صحف ومجلات وتلفزيونات منها: “الحسناء”، “المنبر”، “تحولات”، “نداء الوطن” و”الدستور”. (تلفزيون السلام – تلفزيون (آي سي إن) – تلفزيون الجديد. وهو رئيس تحرير دار “أبعاد” ومجلة “تحولات” وعضو في نقابتي الصحافة والناشرين واتحاد الكتاب اللبنانيين.
من مؤلفاته: “تهجير الموارنة إلى الجزائر” 1994- “عروبة يوسف بك كرم” 1998-“الموارنة سؤال في الهوية” 2000- “عولمتان: الفوضى والمقاومة” 2005-“قديس غير مطوّب” 2006 – “الإنسان أولاً” 2007 – “المسيحيّون في إيران” 2009- “إيران والمشرق العربي” 2010- “في مواجهة الطائفيّة” 2014- وأخيراً “المطران إيلاريون كبوجي ذكرياتي في السجن كما رواها لأنطوان فرنسيس وسركيس أبوزيد” 2018
له دراسات وأبحاث عديدة في الصحف والمجلات: “النهار”، “السفير”، “الديار”، “الحوار العربي”، “الدفاع”، “مواقف” ، “أفق”، “الأخبار” و”الأوان” الكويتيّة وغيرها. وهو محلّل سياسي في عدد من التلفزيونات اللبنانية والعربية والدولية.
رقم العدد 16045