الجماهير- بيانكا ماضيّة
عن دار كنانة للنشر في دمشق صدر كتاب نقدي جديد للأديب والناقد الدكتور نضال الصالح بعنوان: “محمد حموية، اسم منسيّ في القصة السورية”، وقد توزع محتوى الكتاب على علامتين كبريين، تضمنت الأولى موجزاً بالسيرة الذاتية للقاص الراحل، فدراسة لشواغل القصّ لديه، ثمّ شعريّته، فأبرز العلامات المميزة له، وتضمنت الثانية خمسة نصوص قصصية للقاص، ونصاً لم يكتمل بخط القاصّ نفسه.
ومن مقدمة الناقد الصالح للكتاب نقتطف ما يأتي:
ما إن يبدأ المرء قراءة قصّة “الربيع الحزين” للدكتور محمد حموية، القصّة الأولى المنشورة له قبل ما يزيد على نصف قرن، حتى يجد نفسه مرغماً على متابعة فعل القراءة حتى نقطة النهاية منها، ثمّ ما إنْ يمضي، فيقرأ بقية النصوص المنشورة للقاصّ نفسه، حتى يجد نفسه محاصراً بغير سؤال: هل توقّف حموية عن كتابة القصّة واكتفى بعمله أستاذاً للأدب العبّاسي في جامعة حلب، أم أنّه تابع الكتابة ولكنه لم يعد يدفع بما يكتب إلى الصحف والمجلات، أم أنه لم يعد يكتب البتة؟ وما الذي كان يمنعه من لمّ أشتات قصصه الخمس المنشورة في مجموعة طوال أربعة عقود من حياته بعد ذلك، أي قبل وفاته في السنة الثالثة من مطلع هذه الألفية؟ ثمّ ألم يكن ثمّة صديق قريب منه كان يعرف أنّه كان كاتباً قصصياً احتفت بنتاجه المجلّة الأكثر قيمة في الحياة الثقافية العربية في الستينيات، “الآداب” اللبنانية، واحتضنته، فيبادر إلى تشجيعه على العودة إلى الكتابة والنشر، أو على جمعه قصصه لتصدر في كتاب؟
حتى عام 2004، العام الذي بادرت جامعة حلب فيه إلى إصدارها كتاباً يضمّ أربعاً من قصص حموية المنشورة وخامساً لم يُنشر، أي بعد ما يزيد على أربعة عقود من نشره أول نص له، لم يكن أيّ من المعنيين بتاريخ القصة القصيرة في سورية ونقّادها أشار إلى قصص حموية الممتلئة بغير حمولة دالّة على أنّ ثمّة ضرورة لإعادة كتابة تاريخ فنّ القصّة القصيرة في سورية، وعدم الاكتفاء بالمجموعات التي صدرت، وعلى أنّ الخطاب النقدي المعنيّ بهذا الفنّ دأب، ولمّا يزل، على الاحتفاء بأصوات وتجارب بعينها لم تكن جميعاً جديرة بذلك، بل لم يكن سوى القليل من نتاجها جديراً بذلك، وعلى تهميش أصوات وتجارب يمكن عدّها بحقّ علاماتٍ مهمّةً في التجربة القصصية السورية على الرغم ممّا لحق بها من أذى النفي خارج حدود المتابعة النقدية عن قصد أحياناً، وعن نقص معرفيّ فيما يعني حراك المشهد القصصيّ أحياناً ثانية.
بدأ د. حموية كتابةَ القصّة القصيرة ونشرَها مطلع عقد الستينيات، أي عندما كان طالباً يتابع دراسته في جامعة حلب. ويبدو أنّ الظروف التي كان يعيشها وأسرته الكبيرة في بيت صغير في أحد أحياء حلب القديمة (أقيول) كانت تعوّق جمعه نتاجه القصصيّ الذي كان نشره آنذاك، ومن ثمّ إصداره في مجموعة، كما كانت تعوّق إتمامه لغير نصّ قصصيّ كان بدأ كتابته، شأن غير مشروع بحثيّ كان حدّث زملاءه وطلابه عنه.
نشر د. حموية خمسة نصوص قصصية في النصف الأول من عقد الستينيات، أربعة في مجلة “الآداب”، هي: “الربيع الحزين”، و”الطين والصدى”، و”أسنان جديدة”، و”قال الله ليكن نور”، وواحد في مجلة “حضارة الإسلام” هو “أجنحة للسماء”، وثمّة نصّ بعنوان “اليد القوية” تفضّل ابنه السيد وائل بتقديم الصفحات الثلاث الأولى منه إليّ لأنه لم يعثر على سواها بين أوراقه، وهو بخط د. حموية، وثان غير مكتمل كما يبدو بعنوان “باب أنطاكية”. ولا بدّ من أنّ النصوص المشار إليها آنفاً ليست مجمل النصوص القصصية التي كتبها د. حموية، ولا بدّ أنّ صنيع جامعة حلب بإصدارها كتاباً يضمّ بعض منجزه في هذا المجال جدير بالتقدير مهما يكن من أمر الكثير الذي يمكن أن يقال حول الكتاب، ولاسيما مقدّماته.
وواضح من تواريخ نشر النصوص أنّ حموية لم يكن يدفع بكلّ ما يكتبه إلى النشر، وأنّ ثمّة غير عامل، شخصيّ أكثر منه خارجياً، كان يحكم علاقته بالصحف والمجلات في هذا المجال. فعلى حين لا يعثر المرء على غير نصّ واحد منشور له طوال سنة كاملة، هي 1961، وعلى صفر نصّ في السنة التالية، يجد نفسه أمام ثلاثة نصوص منشورة في سنة واحدة هي 1963، ثمّ أمام نصّ واحد سنة 1964.
ولعلّ مسوّغ ذلك زهد حموية، الذي عُرف عنه، في الشهرة والنجومية، ولعلّ مسوّغه أيضاً تقديره أنّه ما مِن جدوى للكتابة في عالَم محكوم بالمال. ولو أنّه منح الفنّ القصصيّ ما يليق به من وقته، متابعةً في الكتابة والنشر، لكان أحد أبرز أعلام هذا الفنّ في النصف الثاني من القرن العشرين، بل لتمكّن بإبداعه من كبح تقدّمِ مَن هم أقلّ موهبة منه إلى الصفّ الأوّل مِن كتّاب القصّة القصيرة في الأدب العربيّ الحديث.
رقم العدد 16051