عبد الله حجار
نقلت إلينا أنباء حلب انتقال الصديق الدكتور محمود حريتاني من هذه الحياة الفانية في ليلة القدر الثلاثاء 19/5/2020 من شهر رمضان الفضيل، وقد ناهز السادسة والتسعين من العمر، قضاه في التدريس والبحث والتأليف في رحاب التاريخ والآثار والسياحة، وترك أبلغ الأثر في مدينته حلب التي أحبها ودافع عن تراثها وتكوينها المعماري والعمراني. وكان بحق مربي الأجيال الصاعدة التي تأهّلت على يديه. رحمه الله وألهم أهله ومحبيه التعزية.
ولد بحلب في العام 1924 لعائلة كثيرة العدد.. كان عصامياً شقّ طريقه بثبات وتصميم في الحياة.. أنهى الدراسة الثانوية في مدرسة المأمون بحلب ونال إجازة كلية الآداب (قسم التاريخ) من جامعة دمشق (1952)، وإجازة في الحقوق من جامعة حلب (1969) ونال من جامعة ليون الثانية (فرنسا) دبلوم الدراسات المعمّقة (1982)، ثم إجازة الدكتوراه في قسم الحضارات والدراسات الإسلامية، وكان موضوعها:”المدينة” بحلب: تطوّر الفعّاليات والملكيّة العقارية بين عامي 1927 و 1980 (1984).
عمل في سلك التدريس في معهد إعداد المعلمين (1952 – 1963) ودرّس في كلية الآداب ومعهد التراث العلمي العربي، وكلية العمارة في جامعة حلب (1969 – 2005)، وأشرف على العديد من أبحاث الدراسات العليا (138 دراسة محلية وأجنبية) عن حلب وسواها.
عمل وظيفياً مفتشاً في آثار ومتاحف شمال سورية (1963 – 1969) ومديراً لآثار المنطقة الشمالية (1969 – 1980)، ثم مدير متحف التقاليد الشعبية بحلب (1980 – 1989).
كان عضواً في الجمعية السورية لتاريخ العلوم منذ العام 1985، وصديق المعاهد الأثرية الفرنسية والألمانية بدمشق، وعضو في جمعية المتاحف الدولية. نال عدة أوسمة منها تكريم من بولونيا (1973) وفرنسا (1974)، وزار العديد من دول العالم مثل اليابان وأرمينيا وفرنسا وسواها.
مؤلفاته:
نشر العديد من الدراسات تتعلق معظمها بمدينة حلب والسياحة بين تأليف وترجمة أو مشاركة مع الباحث جان كلود دافيد بين العامين 2005 و2010، أهمّها: إحياء حلب القديمة، المدينة القديمة : التدهور والإحياء، وقف إبشير باشا، سويقة علي، تنشيط السياحة الثقافية.
كان آخر حضور لي معه في الاستماع إلى محاضرة خلال إعادة افتتاح متحف حلب الوطني بتاريخ 24/10/2019. وقد تمّ تكريمه من قبل السيد وزير السياحة في قلعة حلب يوم السياحة العالمي في 27/9/2019 مع ثلاثة آخرين كنت أحدهم، وقد حضر ولده الزميل علّام لاستلام درع التكريم نيابة عن والده. وأصيب بمرض الشيخوخة في الشهرين الأخيرين من عمره الذي ناهز السادسة والتسعين؛ لترتاح نفسه بلقاء ربه ليلة القدر في 19/5/2020 رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.
مع الذكريات:
عرفتُ المرحوم محمود حريتاني منذ أكثر من خمسين عاماً قبل انتسابي إلى جمعية العاديات العام 1970 عندما كان مفتشاً، ثم مديراً لآثار المنطقة الشمالية، ثم مديراً لمتحف التقاليد الشعبية في مقرّه الأول في بناء مطبخ العجمي، شمال خان الوزير، ثمّ في دار آجقباش في حي الجديدة. كما زاملتُه في مجال السياحة والتدريس في دورات الأدلّاء السياحيين، بدءاً من العام 1987، التي كانت تجريها وزارة السياحة بالتعاون مع مكاتب السياحة والسفر.
وطالما زرنا معاً البعثات الأثرية العاملة في تلال حوض الفرات قبل غمرها بمياه سد الطبقة، وذلك من خلال إشرافي على تنفيذ تحسين طريق حلب – الرقة (في الأعوام 1968 – 1974) حيث كنتُ أرافقه في الاطلاع على تقدّم أعمال التنقيب، وتشجيع رؤساء البعثات الأجنبية (من أمثال أندريه فينيه، وإيفا شترومنغر، وغيفرت فان دريل وسواهم على تقديم محاضرة عن نتائج أعمالهم من أحد منابر حلب الثقافية في رحاب كلية الآداب في جامعة حلب أو المركز الثقافي العربي أو صالة فرع نقابة المهندسين بحلب… والمحاضرتان اللتان يلقيهما باولو ماتيّيه عن نتائج أعمال حفرياته في تل مرديخ كلّ عام، واحدة في كلية الآداب وأخرى في جمعية العاديات، كان يقوم بالترجمة الفورية لها الدكتور محمود أو الدكتور شوقي شعث أو كاتب هذه السطور.
ولا أنسى المساعدة التي كان يقدّمها الدكتور محمود للباحثين في دراسات القرى الأثرية في شمالي سورية للآباء الفرنسيسكان بنيا وكستلانا وفرناندس، لتسترح أرواحهم بسلام، وذلك بتزويدهم بكتب تسهيل أمورهم في التجوال والبحث. وأذكر الكلمة المؤثرة التي قالها الدكتور محمود في حفل تكريمهم في دير اللاتين بحلب بتاريخ 29/1/2010 بمناسبة منحهم الوسام البابوي السامي من قداسة البابا في الفاتيكان على أبحاثهم الأثرية في سورية، وقد أصدروا عنها عشرين كتاباُ، يجدر أن تترجم إلى العربية؛ لتكون اللبنة الأولى في تنشيط التنمية المستدامة في مستقبل الريف السوري.
وكم كانت لقاءاتنا مع علماء الآثار المنقبين مثمرة من خلال اللقاءات في سهرات عائلية ثقافية ممتعة، تقام بشكل دوري في بيت أحد عشاق حلب وتراثها من أمثال الدكتور إحسان شيط، والسيدة أمية الزعيم وجان كلود دافيد وعائلته، وتييري غراندان، وعدلي قدسي وكان بعضها في بيتنا المتواضع، وكان الدكتور محمود مشاركاً مع عائلته بحضورها.
ولن تنسى له حلب موقفه الشجاع في الدفاع عن الأصالة والتراث في فترة صعبة ضد معاول الهدم في النسيج العمراني، أدّت إلى نقله إلى إدارة متحف التقاليد الشعبية. وربّ ضارة نافعة، ما أدّى إلى تفرّغه للعمل الأكاديمي والمثابرة على الدراسة والحصول على شهادة الدكتوراه، وأهّله لمتابعة التدريس وتربية الأجيال التي تجري بحماس في عروقه ودمه. وكم كان حزنه شديداً عندما بلّغ بالتوقف عن التدريس الجامعي لبلوغه السن القانونية (الثمانين في العام 2004 ) وهو في قمة عطائه. فاستمرّ في طباعة الكتب والاهتمام بالعلم الشريف وثابر على الإنتاج والعطاء إلى أن داهمه مرض الشيخوخة. وأذكر، ربما في آخر محاضرة له قدّمها في المركز الثقافي (صالة تشرين) نزوعه إلى الاهتمام بالأمور الإنسانية الشاملة مثل كوارث الطبيعة ونقص الأوكسجين والثقوب السوداء وتحرر المرأة.. وقد سجّل أكثر من 130 موضوعاً يتمنى أن يتحدّث عنها بمحاضرات قادمة، وفيها توجيهات لدرء الأخطار البيئية عن الإنسانية جمعاء. هذا الجنوح الرائع لرؤية الشمولية الإنسانية هي التي لبست روح الصديق الدكتور محمود في أواخر أيام حياته.
كنت أهتف إليه كل أسبوعين أو ثلاثة وكان يطمئنني أن الوضع مستقر والحمد لله. وقبل ثلاثة أسابيع أجابتني زوجته أمّ عمار أنه بخير ولم تدعني أكلمه، رجوتها تبليغه تحياتي. وبلغنا خبر وفاته رحمه الله وأسكنه معه في ملكوته السماوي، حيث في الواقع لا راحة لمؤمن إلاّ بلقاء ربّه. وذكر الطيبين بما يخلفونه من الأعمال الطيبة يدوم إلى الأبد.
رقم العدد ١٦٠٦٦