بقلم وفاء شربتجي
تعد الخانات من المعالم الأثرية التاريخية المهمة في مدينة حلب .
وهي أبنية شُيّدت لأغراض التجارة والصناعة والإقامة والسياحة معاً ، فقد كانت تستخدم الطوابق العلوية منها فندقاً أو نزلاً في ذاك الزمان ، كان لكل جالية أوربية خان خاص بها للسكن ، طوال قرون عدة ، مثال: عائلة الخواجة “ماركوبلي” الإيطالية التي كانت تسكن في خان العلبية ، وعائلة “بوخه” النمساوية التي كانت تسكن في خان النحاسين وهي سليلة عدة قناصل على مرّ الزمن .
يقع خان العادليّة بين خان العلبيّة وجامع العادليّة الملاصق له .
يدخل إليه من جانب سوق القطن ، وله مدخل فرعي من خان العلبيّة .
بناه والي حلب محمد باشا دوقاقين العادلي ، وكان يشكل وحده وقفية متكاملة مع الجامع أي جامع العدليّة ، وخان العلبيّة وسوق الجوخ وحمّام النحاسين ، وقد شيّدوا تقريباً في عام ١٥٥٦ م .
سميّ بالعادليّة نسبة إلى عائلة “العادلي” التي كانت تقطن فيه قديماً .
باب هذا الخان خشبي كبير يُفتح بمصراعين ، ثم نتجه بعد ذلك لبهو الداخل الذي يضم غرفتان جهة اليمين وغرفتان جهة اليسار تحت سقف مقنطر رائع الجمال، ثم نتجه نحو باحته الواسعة المستطيلة التي تتوسطها بركة ماء ، وبقربها تمتشق شجرة كريفون مثمرة بكل عطاء ، وبئر ماء .
تحيط بها عشرون غرفة أرضية ، وعشرون غرفة تتموضع في الطابق العلوي .
وعند نهاية العتبات التي تأخذنا إلى الطابق العلوي ، تطالعنا الغرف العشرين بكل وسامة وأناقة ، تعرّش على أكتاف حيطانها لبلابة لازالت تتمتع برونق إخضرارها .
يمتاز سقف رواقه العلوي بزخارف خشبية ملونة بديعة الشكل .
وجميع تلك الغرف تشرف على الباحة الداخلية للخان ، ومنها ما يشرف على الخارج .
خان جميل لديه سحره الخاص ، كأن الزمن فيه قد توقف قبل عشرة أعوام ، فمازال صدى الأغاني والموشحات ، وأطياف من فرق المولوية ، وهم يسبّحون في ملكوت الله ..
لكن للأسف ، لقد فرغ المكان من أصحابه ، ولم يتبق فيه سوى أطلال من الذكريات ، بسبب الحرب الجائرة على مدينة حلب عام ٢٠١٢م ،
فقد تهدَّم جزء كبير من هذا الخان ، ورفعت عنه ركام الحرب عام ٢٠١٨ م ، وها هو اليوم يستعيد عافيته من جديد .
وقد التقيت السيد “مازن صالحه” الذي كان يحرص عليه كل الحرص ، لأنه جزء من طفولته كما قال .. وأضاف شارحاً سبب تسمية الخان حالياً ، بخان صالحة نسبة إلى والده الحاج “محمد صالحه” الذي أعاد ترميم الخان قبل الحرب ، في عام ١٩٩٠ م ، وانتهى عام ١٩٩٧ م .
وتابع قائلاً :
“كان جدي ووالدي يعملون في مهنة الصوف والجلود ، ثم انتقلت مهنتنا إلى الدباغات التي توجد خارج الخان ، وأذكر تفاصيل تلك المهنة ، حيث كان الصوف يأتينا خامي أي مباشرة من جز صوف الخاروف ، ثم يقومون بعزله حسب اللون ، ثم يغسل داخل أحواض ماء كبيرة ضمن الأقبية ، ثم ينشر على سطح الخان وبعد جفافه ، يندف كي يصبح ناعماً ، لنقوم بشحنه إلى خارج القطر مثل إيطاليا كي يصنعوا منه سجّاداً من الصوف “.
أما بالنسبة إلى الجلود ..
فهي عبارة عن جلد الغنم ، نقوم بغسله وتمليحه ، وقشطه ليصبح الجلد ناعماً ، فنقوم بعد ذلك بصبغه بالدباغات حسب الطلب ، ليصبح جاهزاً عبر قوالب لصناعة الجاكيتات الجلدية المحلّية التي يتم شحنها إلى عدة دول عربية وأجنبية مثل إيطاليا، إسبانيا، ومصر .
وتابع صالحه حديثه قائلاً:
“في صغري اطلعت على عملية دبغ الجلود وتصنيعها وكذلك الصوف لكن كان شغفي يميل إلى الشرقيات كالنحاس والفضة والسجّاد ، والحرير والكلابيات ، وأقمشة الأغباني والبروكار .. الخ “.
وفي عام ١٩٩٠ م قمنا بنقل مهنة الصوف والجلد إلى منطقة الدباغات ، وأعاد والدي كما ذكرت سابقاً ترميم الخان ، ليصبح بعد ذلك جاهزاً ، يضم عدة محال لنا تعنى بالشرقيات ، ومكاتب تجارية أخرى لغيرنا لتجارة الخيوط .
فكان لي ما أردت ، فعملت حينها على إقامة عدة معارض ، وحفلات فيه ، كما أحضرت فرقاً للمولوية ، ليضيف جمالاً على جماله ، وكي يجذب الزوار إليه والسيّاح .
وفي الحرب الجائرة على مدينة حلب عام ٢٠١٢م، قام الإرهــ.ــابيون بتدمير هذا الخان حاله كحال باقي أسواق وخانات مدينة حلب .
وبعد التحرير عام ٢٠١٨ م عملنا على تنظيف هذا الخان بالكامل ، ساعدتنا بذلك منظمة UNDP مشكورة .
لكن نسبة الدمار فيه حوالي ٣٠ ٪ ، لذلك نأمل بترميمه من جديد ، وعودة الكهرباء إليه من داخل الخان وخارجه أيضاً ،
كما نأمل بفتح الطريق المؤدي إلينا عبر خان الشونة لتفريغ بضائعنا لأنه الأقرب والأقصر .
وختم قائلاً :
“مازال قلبي فتياً ينبض هاهنا يركض على جنباته ..
فلا عشق يضاهي حب الوطن” .