الجماهير- بيانكا ماضيّة
فيما كنتُ أبحثُ في بعضِ الملفّات الموجودة لديّ، طالعني ملفُّ الدراسةِ المؤلّفةِ من ستّ عشرة صفحة، والتي كتبتُها بعد خطابِ السيدِ الرئيسِ بشار الأسد خلالَ استقبالِه رؤساءَ المجالسِ المحليّةِ من جميعِ المحافظاتِ السوريّةِ، في قصرِ الأمويين للمؤتمرات، وقد عنونتُها آنذاك بعنوان (دلالاتُ ومعاني خطابِ السيّدِ الرئيسِ بشار الأسد: العقلُ السوريّ، وقوّةُ الشعبِ والجيشِ والحلفاءِ، والصمودُ السوري.. هي التي دحرتِ الإرهابَ وكسَرتْ شوكَتَه….حلب، النموذجُ الأمثلُ والأجملُ للدلالاتِ والمعاني كلِّها.)… وهذه الدراسة لم تُنشر حينها، ولكنّي وجدت أنّها مناسبة اليوم لنشرها، على جزأين، في ظلّ مايجري من أحداث. وفي المقدّمة كتبتُ:
لم يكدْ يطلُّ سيادةُ الرئيسِ بشار الأسد، ويتمّ نقلُ هذا الحدثِ المهمِّ في هذه المرحلةِ التاريخيّةِ، على الفضائياتِ السوريّة، وغيرها، حتى أنصتَ العالمُ كلُّه إلى هذا الخطابِ الرئاسيِّ الذي أقلُّ مايمكنُ وصفُه به، بأنّه خطابٌ رئاسيٌّ للتاريخ، تعانقُ فيه الحروفُ المعاني، وتتشابكُ الجملُ فيه مع الدلالات.
أطلَّ السيّدُ الرئيس إطلالةَ المنتصرِ، في زمنٍ لايشبه ما مرَّ على سوريةَ من حربٍ مدمِّرة للإنسانِ والأوطان. إطلالةَ نسرٍ يحلّقُ بجناحيه عالياً بعد نصرٍ مجلجلٍ على أعدائِه وأعداءِ شعبِه.
يقفُ ابنُ سوريةَ الأصيلُ، الوفيُّ لوطنِه، المقاومُ لكلِّ محاولةِ استعمارٍ أو احتلالٍ له، المدافعُ عن تاريخِه وحضارتِه وتراثِه، المُسترِدُّ لأجزاءِ وطنِه من كلِّ يدٍ عابثةٍ بها، ابنُ الحضارةِ السوريّةِ الأوغاريتيّةِ التي علّمتِ العالمَ أجمعَ معنى الأبجديّةِ واللغةِ، يقفُ وقفةَ الشموخِ؛ ليقولَ الكلمةَ الحقَّ في الخطاب الفصل، وهو يدرك أنّ هذا الخطابَ ستكونُ له آثارُه المحبِطةُ لمن يسمعُه من الأعداءِ، والعملاءِ، والانتهازيين، ولكلِّ مِن يحمل ذرّةَ حقدٍ وانتقامٍ تجاهَ سوريةَ وشعبِها، وستكونُ له ردودُ فعلٍ هوجاءَ جرّاء سماعِ أولئك الأعداءِ المعاني المزلزلةَ للمفرداتِ والحروفِ، والدلالاتِ العميقةَ لها، ورؤيتِهم مساراتِ النّورِ وأشعَّتَه، وهي تُلقي بظلالِها على الأرضِ السوريّة.
– العقلُ السوريّ هو من دحرَ الإرهابَ وكسرَ شوكَتَه!.
وتحت هذا العنوان الفرعي، كتبت:
ولابدّ أيضاً من الإشارةِ هنا إلى ما وردَ في مواقعِ التواصلِ الاجتماعيّ، وما تمَّ الحديثُ عنه في المجالسِ حولَ هذا الخطاب، من أنّه تعبيرٌ عن مشكلاتِ الشعبِ الحقيقيّةِ بتفاصيلِها المتعددة، وعن الواقعِ الحاليِّ الذي يعيشُه، إذ تمَّ التأكيدُ على أنَّ السيّدَ الرئيس مُطّلعٌ وعارفٌ بكلِّ المشكلاتِ التي يعاني منها الشعب، وأنَّ أغلبَ المفاهيمِ والمصطلحاتِ والحقائقِ والبدهيّاتِ التي تناولها، قد أكّدها الشعبُ فعلاً خلالَ سنوات الحرب بصمودِه وتضحياتِه وإيمانِه بالنصر. لهذا كان خطابُه منطلقاً من الشعبِ إلى الشعب، تؤكّده صيغةُ الخطابِ نفسِه حين الانطلاق من استخدامِ الضميرِ “نحن”: “نحن الآن أمامَ ما يسمّى الجيلُ الرابعُ لحروبِ الإنترنت، وهي تعتمدُ على دسِّ المعلومات”، كما يؤكّده استخدامِ الضميرِ “نا”: “والمشكلةُ الوحيدةُ هنا أننّا نصدّقُ دونَ تدقيق،ٍ حتى إذا وردتْنا معلومةٌ صحيةٌ تتعلق بصحتِنا نتبنّاها، ونطبِّقُها من دونِ أن نناقش”.
ففي استخدام الضمائرِ المعبّرةِ عن الحالةِ الجامعةِ والمشتركةِ بين الشعبِ ورئيسِه، وكذلك حين إطلاقِ سيادتِه وصفَ “عائلة واحدة” فيما يخصُّ موضوعَ اللاجئين: “إذا كان اللاجئون بالنسبةِ لهم عبارةً عن أرقامٍ في لعبةٍ سياسية، فهم بالنسبة لنا عائلةٌ تجتمعُ، وكرامةٌ إنسانيةٌ تستردُّ في حكايةٍ إنسانية”…فقد أعطى هذا الشعبَ قيمتَه وعظَمتَه، ودورَه الوطنيّ الحقيقيَّ. واتّضحت أيضاً هذه الحالةُ من خلال حديثِه عن الإرادةِ الشعبيّة، والدعمِ الشعبيّ، والصّمودِ الشعبيّ الذي حمى الوطنَ من تحقيقِ المخطّطِ المرسومِ لسورية، وعن الحقائقِ المتمثّلةِ بحقائقِ الحربِ والنصرِ، فالحربُ إذاً علينا كلِّنا، لا على شخصِه وحسب باعتبارِه “رئيساً للبلاد” بل لاعتباراتٍ سياسيّةٍ أخرى، تتعلّق بالثّقلِ المركزيّ للجغرافيا المقدّسة “سورية” على غيرِ صعيد .
هذا في كفّةٍ، وفي كفّةٍ أخرى الوعيِّ السوريّ الذي ركّز عليه في أغلبِ مقولاتِ خطابِه، ليشيرَ إلى ما لم يُشِر إليه مباشرةً، ألا وهو أنّ العقلَ السوريّ هو من دحرَ الإرهابَ وكسرَ شوكَتَه، على الرّغمِ من أن العملاءَ الحاملي الجنسيّة السوريّة -على حدِّ تعبيرِ السيّدِ الرئيس- كانوا السببَ في الحربِ على سورية، وسببَ معاناةِ الشعبِ السوري بمجملِه، وسببَ آلامِه وعذاباتِه، ونزوحِه ولجوئه إلى الخارج، وقد اختُرقت عقولُهم من قِبلِ العدوّ قبل الحربِ حين تمّ الاتفاقُ على العمالةِ والخيانةِ، لذلك أخضعهم السيد الرئيس للمقياسِ السوريّ، ألا وهو الوطنيّة؛ لأنّ الشعبَ السوري عبرَ تاريخِه الطويل حاربَ أشكالَ الاستعمارِ والاحتلالِ كافةً، ودحرَها من بلادِه، ولذلك نفى عن هؤلاء العملاءِ صفةَ (سوريين) لا لأنّهم لايستحقّونها وحسب، بل لأنّهم لايمتّون إلى هذا الشعبِ بصلةٍ، فهم الغريبون والغربيّون، ثقافةً وممارسةً، وقد عبّرت أفعالُهم وأقوالُهم خيرَ تعبيرٍ عن هذه “الغُربةِ”، من خلالِ عمالتِهم للأمريكيّ وأعوانِه من الدولِ الغربيّةِ، والعربيّة على حدٍّ سواء.
*وجودُ سيادةِ الرئيس!.
ويتابعُ السيّدُ الرئيسُ كلامَه في هذا الشأنِ، ليقولَ:
“أنا لست هنا لكي أهاجمَ الانتهازيين ولكي أبرّرَ ما يحصل”. وهنا يجبُ علينا الانتباه جيداً، فسيادتُه هنا:
1-ليس لمهاجمةِ الانتهازيين وتبريرِ مايحصل، فالانتهازيةُ موجودة، والانتهازيّون يطفون على السطحِ في كلَّ أزمة، وكلما اشتدّت اشتدَّ ظهورُهم. وإنّما لأنَّ مهاجمتَهم ليس من مهامِ الرئيس؛ لأنّهم موجودون في عالمٍ افتراضيّ، عالمٍ لا تُرى فيه الحقيقةُ، وإن كان لابدَّ من مهاجمتِهم، فهي مهمّةُ من ميّزَهم وفرزَهم عن غيرِهم، وممّن أراد البقاءَ على وسائلِ التواصل الاجتماعيّ.
2- وليس لمهاجمةِ الأعداء، وهنا يصفُ فعلَهم “فما يقوم به أيُّ عدوٍ تجاهَ الطرفِ الآخرِ شيءٌ طبيعيّ”، ولأن مهمّةَ مُهاجمةِ الأعداءِ هي لمن عرفَ عدوَّه لا صديقَه.
3- وليس لمهاجمةِ وسائلِ التواصلِ الاجتماعيّ والإنترنت، ويصف فعلَها بأنّها “تخلقُ فوضى” ويصفُها تحديداً بالقول بأنَّها:”مجرَّدُ أدوات”..”ونحن كبشرٍ من يحدّدُ إذا كانت مفيدةً أو ضارة” ويقصد هنا البشرَ الواعين لدورِ هذه الوسائل، لا المنغمسين فيها دونَ معرفةِ ووعي دورِها. ومادامت هي مجرّدُ أدواتٍ، فهي أدواتٌ لأعدائِنا؛ لأنّهم هم من صنعوها، إذاً علينا ألا ننغمسَ فيها؛ لأنها تخلقُ فوضى افتراضيّة بيننا. هذا هو الدرسُ الثالثُ للشعب. (أشرت في الدراسة الكاملة إلى الدرسين الأول والثاني).
4- وليس لنفي التقصيرِ أو الإهمالِ أو الفسادِ أو الحصار… ليس لنفي “أيِّ جانبٍ من المشكلات التي نعاني منها عمليّاً”.
أي أن وجودَ السيّدِ الرئيس هنا لا للنفي، وإنما للإثبات، والسؤالُ الجوهريّ: ألإثباتِ أيِّ أمرٍ؟!
والسؤالُ الجوهريُّ الآخرُ: لِمَ السيّدُ الرئيسُ إذاً هنا؟! السيّد الرئيسُ هنا ليقولَ: “أنا هنا”!.و”أنا هنا” حسب الكوجيتو الديكارتيّ، يعني”أنا موجودٌ” ومادمتُ موجوداً فأنا أفكّر.
هنا يظهر بريقُ الجملةِ التي لم تُقل، الجملةُ الفلسفيّة:”أنا موجودٌ إذاً أنا أفكّر!”.
هذه هي الثورةُ الثانيةُ للسيّدِ الرئيس (سبق وأن أشرت إلى الثورة الأولى في الدراسة)، وهي ثورةٌ في الفلسفةِ، وقلب المفاهيم، فتفكيرُنا ليس كتفكيرِهم، هم يسعون إلى الحروب، ونحن نسعى إلى السلام.
ويختمُ سيادتُه الكلام بالقول: “كلُّ هذه العناصرِ أعتقد أنّنا متّفقون حولها، فأين هي المشكلةُ إذا كنا كلُّنا أو معظمُنا نرى هذه الأمورَ بالطريقةِ نفسها؟”.
إذاً كلّنا أو معظُمنا يفكّرُ ويرى ويحللُ بالطريقةِ نفسِها، ومادمنا نفكّرُ بالطريقةِ نفسِها، فماذا نحن إذاً؟! نحنُ موجودون.
نعم الشعبُ السوريُّ موجودٌ وباقٍ، وليس هناك قوةٌ في هذا العالم تستطيعُ أن تقلعَ جذورَه من أرضِه، أو أن تمحوَه عن وجهِ هذه الأرض، نعم، الشعبُ السوريُّ باقٍ، وليندحرْ كلُّ أعدائه.