بقلم عبد الخالق قلعه جي
في كتابه القدود الدينية يذكر الموسيقي الباحث محمد قدري دلال أن أقدم الموشحات المتوارثة في حلب هما موشح أحن شوقاً وموشح كلما رمت ارتشافاً والذين لحنهما الحاج عبد القادر المراغي الذي عاش في القرن الخامس عشر الميلادي.
يعود سبب بقاء هذين الموشحين وديمومتهما إلى منشدي الأذكار الذين استمروا في غنائهما خلال فصول الذكر والإنشاد في الزوايا والتكايا التي تقوم في عدد من المساجد و الجوامع و في بعض البيوت العريقة.
الأذكار في حلب، هي طقس روحي ابتهالي تسبيحي استغاثي، يفتتح بتلاوة من القرآن الكريم، ثم تبدأ فصول الذكر بفصل الجلالة ويكون على إيقاع بطيء جداً ويتدرج بالسرعة مع الانتقال إلى الفصول التالية التي يقدم فيها الموشحات الدينية (التواشيح) والقدود والقصائد والمواويل.
لعل الزاوية الهلالية التي تقوم في حي الجلوم وتعود إلى القرن السابع عشر هي أكثر الزوايا شهرة، إذ أنه ما من مُعلِّم أو ملحن كبير أو مطرب شهير إلا وكان فيها “ريِّساً” أو أحد معاونيه.. مصطفى البشنك.. الشيخ محمد الوراق الجنيد … الشيخ عبد السلام سلمو.. الحاج صبحي الحريري.. عبد اللطيف قضيماتي.. فؤاد خانطوماني ومسعود خياطة.
زوايا كثيرة أخرى عرفتها حلب منها، زاوية البادنجكي.. زاوية الشيط.. زاوية بانقوسا.. القادرية.. الرفاعية.. الجذبة.. المهندس.. الصيادي.. النسيمي.. بيت بطيخ والزاوية المولوية التي كان من أعلامها عازفا الناي الكبيران الشيخ علي الدرويش والشيخ عبد اللطيف النبكي وذلك حتى منتصف القرن العشرين.
المولوية كانت مسكاً للختام في الليلة الحلبية التي أحياها شيخ المطربين صبري مدلل وفرقته في مهرجان الأغنية السورية الخامس بحلب عام 1998، وقدم خلالها سهرة غنائية، تضمنت جميع القوالب الغنائية والموسيقية الحلبية والتي مازال عبقها يضوع في ذاكرة الجمهور، الذي صفق طويلاً لتلك الليلة ولمعدها الإعلامي القدير الراحل نذير عقيل.
ملء العين كانت لوحة المولوية مع تفريدات الفنان محمود فارس.. اللهْ.. . اللهْ.. . يامن يرى ما في الضمير ويسمع.. أيا حياتي.. مدد.. يا رب بهم وبآلِ هِمِ … عَجِّل بالنصر وبالفرج … الله الله يا رب
ملء السمع لما تزل كلمات ابن الفارض التي شدا بها صبري مدلل هذا الفنان المعلم في تلك الليلة..
عني خذوا وبي اقتدوا ولي اسمعوا …. وتحدثوا بصبابتي بين الورى
“أي جمال هذا الذي تغني وأي جلال”.. كأني به ينثر وصاياه آهات جوىً، نغماً شجياً وسلافة روح…. عشرات من السنين.. ابداعاً وعطاءً عمرها.
ذات عصر من صيف عام ألف وتسعمئة وستة وتسعين اتخذت الطريق إلى الجامع الأموي الكبير لألتقيه، عساي أظفر به ضيفاً، أَعْبُر معه إلى المستمعين في أولى حلقات برنامج أعلام في حلب، الذي كنت أحضِّر لإطلاقه عبر إذاعة حلب.
في صحن الجامع حيث هديل الحمام وتعطيرات المنشدين، وقفت خاشعاً أمام تجليات النداء الإلهي حي على الفلاح وهي تسري للروح وللِّقاء.. نشوة عاشق صوفي شق صوته الرخيم فضاءات أنغام أترع كل كؤوسها.
على قاعدة الحوض الحجري المدور الذي تعلوه قبة محمولة على ستة أعمدة جلست إلى جواره.. ممنياً النفس بأن أنال الرضا وأحظى القبول.. فكان لي ما تمنيت موعداً في الإذاعة ولقاء.
ستون دقيقة أخذتنا في بدايتها إلى حي الجلوم حيث وُلد “محمد مدلل” عام 1918 والذي أضحى اسمه صبري مدلل مع افتتاح إذاعة حلب ودخوله إليها عام 1949.
كما كل الكبار كانت حلقات الذكر محطته الأولى التي حملته في سنته الثانية عشرة إلى الشيخ عمر البطش ليدرس عليه فنون الإنشاد والغناء وعلوم المقامات والايقاعات ورقص السماح.
“موشح كحل السحر – يجيب صبري مدلل – هو أولى عشرات الموشحات التي حفظتها عن معلمي البطش وبدأت بأدائها في الزوايا الصوفية حيث أفدت أيضاً من كبار الفنانين الذين تعرفت عليهم وعاصرتهم وأخذت عنهم”.. ليضيف إلى ما تعلمه رصيداً هاماً جعل منه واحداً من رواد الغناء وأعلامه.
في إذاعة حلب يتابع صبري مدلل “التقيت بأساتذة التلحين بحلب آنذاك الشيخ علي الدرويش وابنه نديم وعاصرت محمد النصار وأحمد الفقش ومصطفى الطراب وعبد القادر حجار والشيخ بكري الكردي الذي غنيت من ألحانه آنذاك عبر الإذاعة وعلى الهواء ابعت لي جواب ويجي يوم”، من كلمات حسام الدين الخطيب.
عام 1955 تفرغ صبري مدلل إلى الانشاد وشكل العديد من الفرق التي ضمت على التوالي فؤاد خانطوماني.. عمر الدربي.. أحمد المدني.. حسن حفار.. عبد الرؤوف حلاق.. عمر صابوني.. محمود فارس.. ربيع شهير ومحمد ومحمود حمدية، وقد التزمت هذه الفرق بإحياء حفلات المولد عموماً وحلقات الذكر في عدد من الجوامع.. الكلتاوية.. الفرقان وجامع الروضة.
كانت حفلة باريس عام 1975 بداية انطلاق صبري مدلل لتقديم الغناء التراثي الطربي والإنشاد الديني إلى العالم، حيث غنى في بلجيكا.. هولندا.. ألمانيا.. سويسرا.. النمسا.. اسبانيا وهونغ كونغ بالإضافة إلى حفلاته في العربية بمهرجانات قرطاج.. بيت الدين.. جرش.. والمغرب وغيرها.
امتلك صبري مدلل ناصية التلحين فوضع ما يقارب أربعين لحناً جاءت تواشيح دينية رائعة “إلهي يا سميع ويا بصير.. أحمد يا حبيبي.. طمن قلبي ورمضان كريم ” وغيرها، بالإضافة إلى موشح يا عاقداً للحاجبين والكثير من القصائد والمواويل التي ظل يرددها حتى رحيله في آب 2006.
في البال والذاكرة سيبقى شيخ المطربين صبري مدلل بطربوشه الأحمر ولغة جسده الجليلة وهو يتسامى غناءً على إيقاعات الروح والحب والابتسام.. تراث يمشي على قدمين أستعيرها وبقايا عسل من خوابي الكبار.
بإمكانكم متابعة آخر الأخبار و التطورات على قناتنا في تلغرام