النحات السوري العالمي مصطفى علي .. “نشوة الإبداع هي العودة إلى النشأة ” معارض عالمية عديدة حافلة بالألوان والأصالة.
وفاء شربتجي
في بيئة ريفية ساحلية ولد الفنان “مصطفى علي” عام 1956 في بلدة رأس شمرا (أوغاريت) الفينيقية التابعة لمحافظة اللاذقية، وترعرع في كنف عائلة بسيطة ، ثم درس في كلية الفنون الجميلة بدمشق ، قسم النحت وتخرّج من الأوائل ليلتحق بكلية الفنون الجميلة بإيطاليا عام 1996 .
حاز الفنان “علي” عدة جوائز عربية ودولية ، ونال عضوية اتحاد الفنانين التشكيليين العرب، ثم أسس حي الفنانين في دمشق القديمة ضمن حي الأمين حيث شكّل هذا المكان علامة ثقافية مميزة، يطغى عليها طابع الجمال والفن .
عرضت منحوتاته ضمن عدة معارض عالمية أهمها في باريس ، الشارقة ، المملكة الأردنية الهاشمية، وغيرها ، أما في دمشق فله الكثير من الأعمال، أهمها ترميم نصب السيف الدمشقي الكائن في ساحة الأمويين الذي يعتبر من أهم رموز مدينة دمشق ، حيث صنف النحات “العلي” من أهم مئة شخصية مؤثرة في العالم، فهو يستخدم في أعماله الفنية خامات عدّة كالخشب ، والبرونز ، والحجر ، والمعادن ، وجميعها ممهورة بطابعه الخاص الذي بات معروفاً في الوسط الفني .
تأثر “علي” بالفنون الأوغاريتية وبالمنحوتات التدمرية .
وعن شغفه الذي لا ينتهي بالعمل الفني، كان لنا معه هذا اللقاء :
١_حدثنا عن طفولتك واكتشافك لذاتك ..
هل كنت تعلم أنك موهوب ومشروع فنان ؟
– كوني ابن مدينة اللاذقية ، تأثرت كثيراً بالبحر ، والنهر الذي كان يقع على أطراف اللاذقية بالقرب من رأس شمرا، فكنت في صغري ألعب على ضفتيه و أكوّن من الطين المترسب أشكالاً ، و ألملم الفلين العائم فوقه لأعمل منه منحوتات ، وهنا شعرت بأن الطين والنحت هما شغفي الفني الأول .
وتابع : تأثرت طفولتي بجمال وروعة بيت جدتي الريفي في جسر الشغور الكائن ضمن ضيعة “كمعايه” وأعتقد انه اسم كنعاني ، مازال يعبق في ذاكرتي رائحة الفطور الذي كانت تعدّه جدتي ، خبز التنور والمحمّرة والبيض البلدي المقلي بالسمن العربي .
كنت مولعاً جداً بخالي الذي كان يتحين موعد مجيئي ليتصيد لي طيور الحجل لتطهوها لي بعد ذلك جدتي .
أذكر تماماً كيف كان خالي يدرس القمح كي يفصله عن القشر بالطرق البدائية بحجر الصوّان ، والذي كان يصنع منه أيضاً السكاكين الحجرية .
تلك الذاكرة الطفولية الجميلة التي عشتها جعلتني أشعر وكأني عشت مئة ألف سنة .. !!
بداية من العصر الحجري (الريف وسكاكين خالي الحجرية ، جرش القمح ثم عجنه وخبزه على التنور من قبل جدتي .. إلخ ) إلى عصرنا الحالي ، عصر التكنولوجيا، هي فرصة لي وكأني مررت بكل تلك العصور .
واختتم الإجابة قائلاً : باختصار طفولتي كانت غنية بالرضا والبساطة لا بالمال .
٢- بعد تلك الطفولة الغنية كيف تطورت مراحل اكتسابك لتلك المهنة أو لذلك الفن ؟
– عندما كنت في الصف التاسع ، عرفت بوجود مركز للفنون الجميلة ، فانتسبت إليه فوراً ودخلت قسم النحت ، وكنت في كل مرّة أدخل إليه أشعر كأني أدخل إلى معبد، هنا كانت بداية تكويني لعالمي الخاص وتحقيق حلمي .
وبعد أن نلت شهادة الثانوي انتسبت فوراً إلى كلية الفنون الجميلة بدمشق قسم النحت ، وتخرجت بتفوق. هنا شعرت أني ولدت لأكون نحاتاً.
٣- ماهو هاجسك وحلمك !!.
– كل أحلامي كانت مبنية على خلق منحوتات أعطيها من وقتي وروحي وعمري ، حتى باتت تلك المنحوتات جزءاً من كياني ، أحياناً أراها في حلمي وهي تمشي ، أعود لألملمها من على الطرقات وأعيدها إلى معبدي .
٤- ماهي أغلى منحوته لديك؟!
– تمثال الشمس ، أحبه جداً فبعد أن أوشكت على بيعه، أعدته إلى حضني من جديد ، وما زلت أحتفظ ببعض الأعمال لنفسي كونها تجسد العديد من مراحل حياتي .
٥- حدثني عن أول معرض لك ؟
– أول معرض أقمته كان في عام 1988 وكانت جميع منحوتاتي من البرونز ، تلك المادة التي كنت أول من عمل معرضاً بها ، حيث لاقى المعرض آنذاك إقبالاً شديداً من متذوقي الفن الأصيل ، فتم بيع كامل أعمالي خلال ساعات قليلة فقط والحمد لله.
٦- كيف ترى نفسك بعد عشر سنوات من الآن؟!
– أتمنى أن أبقى أعمل وأبدع حتى آخر العمر ،
مثل “بيكاسو” فقد كان يعمل ويبدع حتى عمر التسعين .
٧_ هل أعمالك تجارية ؟ أم أن عينيك ترى و تبدع ما تحب دون شروط ؟!
– أرفض أن تكون أعمالي تجارية، بمعنى أنا لا أعمل ما يُشترط عليّ عمله ، بل أعمل ما تلتقطه عيني وتترجمه يداي ، سواء كان على الحجر أو البرونز أو الخشب .
وأضاف قائلاً : أعمالي هي بنات أفكاري، والأهم أني كونت بصمة خاصة بي تميزني عن غيري من الفنانين.
٨_ ماهو حلمك بعد أن أصبحت مشهوراً ولك بصمتك الخاصه بك ؟
– كان هاجسي أن اسافر إلى إيطاليا لأكمل تعليمي وأطور ذاتي وفعلاً سافرت وحاولت أن أجدد نفسي ، كانت تسافر معي كل ذكريات الطفولة (البحر ، النهر، الحجر الرملي ، حجر صوان خالي ، رائحة خبز تنور جدتي) فبدأت بكتابة هوامشي الوجدانية ، وكانت في كل مرة بين السطور تقفز تلك الذكريات ، لتحثني على الإبداع من جديد ، وهنا اكتشفت أن نشوة الإبداع هي العودة إلى النشأة ، لطفولتي الغنية بالحب والجمال و سحر الطبيعة و تفاصيلها ، تلك التفاصيل الغنية هي من جعلتني أبدع.
٩- داخل كل شخص منّا صندوق أسود مغلق على ذاته لا يحب أن يفتحه لأحد ، هل تستطيع أن تطلعنا ولو على جزء بسيط مما تغص به ذاتك ؟
– الصندوق الأسود هو مصنع الأفكار وكل الثقافة التي يكتسبها الإنسان هي التي تكوّن الإبداع الذي بدوره يأخذ جميع مؤثراته، من الفرح والحزن والألم والذكريات ، فكل هذا المخزون ساهم بدعم العمل الفني لدي، وأنا لا أخفي عنكم صندوقي الأسود، بل أعتبره صندوقاً أبيض مفتوحاً ، فأنا لا أخجل من فقري وظروفي الصعبة، وأفتخر بأني صنعت نفسي وبدأت من الصفر.
فالأيام كانت تمر عليّ أحياناً وأنا لا أجد لقمة آكلها. كنت أبحث عما تبقى لدي من خبز جاف قديم ، أرشه بالماء ثم أسخنه وآكله .
وأضاف : حتى الآن مازلت أحفظ نعمة الله التي أنعمها عليّ فلا أفرط في لقمة خبز جافة أبداً .
وتابع سارداً : كنت لا أتنازل عن حلمي إلى أن وصلت وكونت عالمي الخاص بي ، وحققت حلمي باقتناء منزل عربي قديم بحي الأمين ضمن المدينة القديمة بدمشق ، ذاك الذي حولته إلى كاليري يضم جميع أعمالي ، وبعض الغرف منه حولتها لفندق ، والبعض الآخر لورشات عمل، أستضيف فيها طلاب كلية الفنون الجميلة ، كما أن إيوان الدار بات فضاءً خصباً يضج بالمثقفين والشعراء والأدباء والموسيقيين ، وكأن “كاليري مصطفى علي” الذي أعطيته اسمي أصبح ممهوراً بالتميز والعمل الإبداعي .
هذا الكاليري هو اليوم ملاذي وصندوقي الأبيض الذي يضج بالحياة ، هو إمبراطوريتي التي حققتها بجهدي والتزامي وصبري .
١٠- من زارك في تلك الإمبراطورية التي صنعتها بنفسك؟!
زارني العديد من الأصدقاء والفنانين ، كما زارني العديد من الشخصيات المرموقة ورؤساء دول مثل:
ملكة إسبانيا ، أنجلينا جولي ، بعض رؤساء دول ، والعديد من روّاد هذا المكان .
ومازال مزاراً لطلاب كلية الفنون الجميلة من الجيل الجديد ، الذي أتمنى أن يكون صبوراً ودؤوباً على شغفه بالحياة .
١١_ بمَ تحب أن تختم لقائي معك الذي تشرفت به ؟
أتمنى أن يكون لدي متسع من الوقت كي أستمتع بالحياة .
وأن يبقى الكاليري الذي يحمل اسمي مزاراً لكل من يقصده خدمة للفن والعمل الفني .
كما أتمنى أن أكون قد تركت أثراً جميلاً في نفس كل من عرفني وأني قد كونت بصمة بأعمالي تحاكي جميع مراحل تطور الفن عبر الأجيال .
الفنان مصطفى علي ..
انتهى حواري معك فقد أغنيتنا بحوارك العميق وأمتعتنا بلمساتك الفنية الغافية مع الحلم ، والتي منحتها الحياة والسكن ضمن منزلك الدمشقي القديم الذي يضوع فيه عطر الياسمين ، ويضحك الكبّاد قرب وشوشات من ندى الفؤاد .
======
بإمكانكم متابعة آخر الأخبار والتطورات على قناتنا في تلغرام