الجماهير ـ بيانكا ماضيّة
ودعّ سيفُ الدولة الحمْداني أصدقاءه شيوخَ الشعرِ، وكبارَ الفلاسفةِ ممن كانوا ذاتَ حِقبةٍ يجتمعون في بلاطِه المعروفِ بمنطقة (بستان القصر) فيسمع العالمُ كلُّه أشعارَهم وأحاديثَهم ودعاباتِهم!. ودّعهم سيفُ الدولة وعلى وجنتيه بدت دموعُ الحنين والحنان بعد أن اجتمعَ بهم في بلاطِه السماوي؛ ليحدّثَهم عما في نفسِه.. ولكن أحدَّ الشعراءِ المقرّبين منه، سأله بعد أن رأى دموعَه تلك: ما بالك يا أمير بني حمدان؟!
فأجابه: والله لقد اشتقتُ إلى المدينة التي تركتُ, وإلى الحلْبة التي مع خيولي بها ركضتُ. تُرى ماذا حلَّ بهذه المدينة, بعد أن ودّعتها بعينٍ حزينة؟!.
وفيما انهمرت الدموعُ غزيرةً على وجهه, نظر إليهم فرأى على وجوههم سروراً وغبطةً, وكأن أمراً كانوا ينتظرونه دهوراً طويلة. تعجّب مما رآه على وجوههم, وودّعهم على أمل اللقاء بهم عن قريب, وركب بساطَ الريح؛ ليزورَ المدينة التي تركها ذاتَ يومٍ تعجّ بغير فيلسوفٍ وشاعرٍ وأديبٍ, واتجّه نحو جبلِ الجوشن ليرى مآلَ بلاطِه, ذاك البلاطِ الذي “لم يجتمع قطّ ببابِ أحدٍ من الملوك بعد الخلفاءِ كما اجتمع به من شيوخِ الشعرِ ونجومِ الدهر”، البلاط الذي كانت تكثر في بستانه الأشجارُ, وتحطّ على أفنانها الأطيارُ. وفي طريقه إلى المدينة تذكّر نهرَ قويق الذي أجراه إلى القصرِ وأطافه فيه، وما إن وصل مكان القصر، حتى راعه المشهدُ. لم يرَ شيئاً مما كان على العهد, رأى بقايا بلاطٍ، وأبنيةٍ متهدّمة، وأناساً يتفرّقون، وآخرين يسقطون، وسمعَ إطلاقَ رصاصٍ كثيفٍ، فاقترب من رجلٍ لاذ بجدارٍ، وسأله: أين نحن أيها الرجل؟! ماذا يحصلُ الآن؟! فدهش الرجلُ من سؤالِ سيفِ الدولة، وقال له: ألست من حلبَ أيها الرجلُ، ألا تعرفُ هذه المنطقةَ، إنها معبرُ بستانِ القصر؟! وما أدراك ما المعبرُ؟!.
امتقع وجهُ سيف الدولة حين سمع جملةَ (معبرُ بستان القصر)، وما كان منه إلا أن أجاب: بلى أعرف هذه المنطقةَ جيداً، لكنني مقيمٌ في منزلٍ ليس فيه تلفازٌ ولا مذياعٌ ولا أيةُ وسيلةٍ إعلامية، أسمع الأخبارَ من الناسِ فقط.. فماذا حلّ بحلب؟!
روى الرجلُ لسيف الدولة على عجلٍ قصّةَ دخولِ الغزاة إلى البلادِ، وقصصَ القتل والذبح والخراب والتهجير. أما سيفُ الدولة فقد جحظت عيناه، ولم تخرج كلمةٌ من فيه، إذ تذكّر مشاهدَ الخرابِ التي خلّفها نقفورُ ذات عصرٍ, وقارنها بما خلّفته تلك القطعانُ البشرية آكلةُ اللحوم اليومَ، فأسف على ما أصاب حلبَ من خرابٍ وفقر وجوع وعوز أصاب أهلَها، وشعر بالوهن والتعبِ, وما كان منه إلا أن انسلّ من المعبر، واقتضب من زيارته للمدينة, وارتأى أن يزورَها في يومٍ آخر, عسى أن يرى مدينتَه الحالمة بحِلّةٍ جديدة.
وعلى بساط الريح رجع إلى أصدقائه الذين ينتظرونه في بلاطِه السماويّ, وما إن وصل حتى بادره ابنُ عمّه أبو فراسٍ الحمدانيّ بقوله:
أراك عصيّ الدمع شيمتُك الصبرُ …..أما للهوى نهيٌّ عليك ولا أمرُ؟!
فأجابه سيف الدولة، ودمعُ العين يسبقه:
نعم أنا مشتاقٌ وعندي لوعة …..ولكن مثلي لا يذاع له سرُّ!!! .
لم يكن هبوطُ سيفِ الدولة الاضطراريِّ إلى حلبَ, إلا بسبب الشوق والوجد في قلبه, وقد أسرَّ لأصدقائه الشعراء والكتّاب والفلاسفة هذا الأمرَ, كي لا يظنوا به الظنونَ, خاصة وأن في المدينة فتياتٍ حسناواتٍ، فيطيب لسيفِ الدولة المقامُ فيها, وينسى المرامَ من زيارتِه إليها.
لم يمكث سيفُ الدولة كثيراً في البِلاط، فحالُ المدينة أقضّت مضجعَه، فاستأذنهم مرةً أخرى للرجوع إلى المدينة, عساه يراها بحالٍ أخرى بعد أن غضب في المرة السابقة, ورجع إليهم بنفسٍ مقهورة.
واعتلى سيفُ الدولة بساطَ الريح كأنه يركب فُلْكاً, ليرى ما كان له ذات يوم مُلكاً, وجاب الفضاء على عجل, ونظر إلى مدينته نظرةَ العاشقِ المتيّم. لم يشأ أن ينزل في أيّ مكان، فتطلع إلى المدينة، والدموع تتوالى على خديه دمعةً إثر دمعة, وبانت له تلك القلعةُ الشاهقةُ الجبّارة, فرغب أن يقيمَ في قاعة عرشها. وما إن وقف أمام القلعة ليلقي عليها التحيّة, حتى سمع صوتَ إطلاق الرصاصِ، فانبطح أرضاً..
-قفْ من أنت؟! سلّم نفسك! هذا ما سمعه من أحّد الجنود المتمترسين خلف إحدى سقّاطات القلعة، فقال والحشرجةُ تملأ صوتَه: أنا أميرُ هذه المدينة، أنا سيفُ الدولة الحمْدانيّ! فأجابه الجندي: وما الذي أتى بك الآن أيها الأمير؟! اصعد الدرجَ بسرعةٍ قبل أن يراك أحدُ المسلحين القابعين في المدينة القديمة، فيرديك قتيلاً!
وبعد أن وصل سيفُ الدولة إلى داخل القلعة ركضاً، رأى جنوداً كثيرين كان قد أعلمهم رفيقُهم بوصول سيف الدولة إليهم. فرافقوه إلى قاعة العرش حسبَ طلبه، ففوجئ سيفُ الدولة بمشهدِ الخرابِ الذي عمّ القاعةَ، وفار الدمُ في شرايينه، ولكن الجنودَ هدؤوا من روعه، وجلسوا ليحدّثوه عما جرى معهم في هذه القلعة. فقال أحدُّهم:
-لقد حاول الإرهابيّون التكفيريون الذين احتلوا المدينة القديمة، من خلال هجماتهم من محيط القلعة، وأكثرَ من ثلاث مرات تسللاً عبر الأنفاق؛ أن يحتلّوا القلعةَ، لكنّ هجماتِهم باءت بالفشل، فقد كنا لهم بالمرصاد .. كنا ندرك أن احتلال الإرهابيين للقلعة يعني سقوطَ حلب، وأن صمودَ المدينة وحياةَ أهلها مرتبطٌ بصمودنا، لهذا فقد ثبّتنا قلوبَنا في حجارتها، وحفرنا لأقدامِنا أمكنةً حولها.. نالوا من مدخل القلعة بقذائفهم، فشوّهوا معالمه الأثرية، كما ألحقوا بسورها وأجزاءٍ من مبانيها الأثريّة وقاعةِ العرشِ هذه أضراراً كبيرة، في سلسلة تفجيراتٍ قاموا بها تمهيداً لاقتحامها، لكنهم لم يستطيعوا إسقاطَها أو النيلَ من إرادتنا.
قاطعه سيفُ الدولة بالقول: ألم تخشَوا من دخول المسلحين إليها؟! فأجابه أحَدُهم:
-استمرّت المواجهاتُ الضاريّة بيننا وبينهم خمسَ سنوات، ورغم ارتقاء عددٍ منا شهداءَ، فقد ثبتْنا فيها ثباتَ الأسدِ في عرينه، متحصّنين بها وبعشقنا لوطننا وحبنا لشعب هذا الوطن، وبإيمانِنا بعقيدتنا القتاليّة، وأن دماءَ أهلِ حلبَ أمانةٌ في أعناقنا…أنفاقٌ كثيرة حفروها في المدينة القديمة، ولكنا فخخناها جميعَها ونسفناها من خلالِ أنفاقٍ معاكسة. أحدُ تلك الأنفاق وصل إلى القلعة، وجرى الاشتباك هنا في الأعلى، وفدانا رفيقُنا بدمه إذ أصابوه فاستشهد، ولكننا قتلنا جميع المتسللين إليها.
وتابع الحديثَ جنديٌّ آخر:
– أُصبنا بنوعٍ من الاستغراب حين وصول أولِ نفقٍ إلينا، إذ لا يمكن تصورُ كيفية وصولهم إلى القلعة.. وبقيت مع مجموعتي ثلاثةَ أيام متواصلةٍ من العمل، بلا نوم ولا أكل ولا شرب؛ لفتح النفق واحتلاله. حفرنا النفقَ نفسَه، وكان الإرهابيّون قد لغّموه بعبوات ناسفة مرصودة بكاميرا، فقمت بفك الكاميرا وفك الألغام، ونجوت بأعجوبة.
سرّ سيفُ الدولة لكلامِ الجنود، وهم يحدثونه عن بطولاتهم واستبسالهم في هذه القلعة، إنهم حُماة القلعة الثلاثون، الذين سطّروا ملحمةً خالدة، في قلعة الصّمود، قلعة حلب.
ولكن الجنودَ أرادوا أن يحدثّهم عن حلب حين كان أميرَها, وعما كان لديه من سياسة وأدب، فقال له أحدهم: حدثنا أيها الأميرُ عما كانت عليه حلبُ في سابقِ عهدها؟!
فأجابه: لقد بلغت حلبُ أوجَ بريقِ الأدب, حين جعلتُ منها عاصمةً مهمةً في سالف الحِقَب, وأصبح بلاطي يضم نخبةً من الرجال الكبارِ أدباً وفكراً وعلماً, ولم يكن هذا الأمرُ خيالاً أو وهماً. وكان منهم أبو فراسٍ الحمْداني وابنُ جني والمتنبي والنّامي, وأبو بكر الصنوبري والفارابي والخليع الشامي. ومن حلبَ التي اتخذتها مركزاً لإقامتي ومرتعي, كنت أُدير شؤونَ البلاد بإشارة من إصبعي, واعتمدتُ في إدارتي على الأقرباءِ, فهم قادةُ الجيوش زمنَ الحرب والبلاء, كما استعنتُ بالأصدقاء النابغين, إذ كانوا أحبابي وجنودي الفدائيين, يقفزون للوصول إلى الأعداء من قمّة إلى قمة, بكلّ يسرٍ وسهولة وهمّة, حتى ينزلوا على العدو النائمِ, فيوقعوا به شرّ الهزائم. وقد تسلمت مهمةَ الدفاع عن الثغور لأني همّامٌ ولدي جلَدُ, وكي لاتؤول إلى البيزنطيين البلدُ, وكرَمي لم يكن وقفاً على رجالِ دولةِ الحمْدانيين, وإنما شمل أيضاً الأفرادَ العاديين, وتنبئكم الأحداثُ أنه عندما أُسر أبو فراسٍ وكاتبني لأفتديه, أَبيتُ ذلك مع حبي ووجدي عليه, وظلّ في الأسر مدة سبع سنين, ولم أقم بافتدائه وتركِ باقي المسلمين.
وأكتفي بهذا القدر من الحكاية, على أن أتممها لكم غداً لتكتملَ الرواية, فقد ذكّرتموني بمجدي في حلبَ, وإنشادي العزَّ والشعرَ والأدبَ, وأشعر أن قلبي في اشتياقٍ لذاك النهارِ, ومن يعيدني إليه أدفع له خمسمئة ألف دينارٍ, أو أقتطعه مساحةً كبيرةً من الديار!!
فضحك الجنود إثر الدعابة التي ألقاها سيفُ الدولة، وتركوه ليبيتَ ليلتَه في قاعة العرش.
وعاد سيفُ الدولة في اليوم الثاني ليكملَ للجنود حديثَه، حديثَ الأدب والسياسة, ولكن أحدهم أراد أن يحدثهم عن أبي فراس, لما له من سمعةٍ طيبة، وصيتٍ عطرٍ, فقال سيفُ الدولة:
-لقد ولّيتُه منبجَ وما حولها من القلاع, لما له من فتوة وبأس وقوة استطلاع, وقد خاض الكثير من المعارك ضد الرومِ, من أجلي أنا ابنُ عمّه حارسُ التخومِ, وحين أُسر لديهم سنواتٍ وسنوات, أنشأ أجملَ شعرِه المعروفِ بالروميّات, فشعرُه الفصيحُ لايخفى على الناسِ القارئين, لما فيه من جزالةٍ وقوةٍ، ولفظٍ صريحٍ مُبين.
ولكي لا يطيلَ عليهم الكلامَ، ولا يلهيَهم عن أداء واجبهم المقدس نحو القلعة وحلب، فقد أصرّ سيفُ الدولة على الرحيل، وأخبرهم بأن حلبَ لن تسقط، مادام هناك جنودٌ أشاوسٌ أمثالُهم يدافعون عنها وعن قلعتها، فما كان من الجنودِ إلا أن أخبروه بأن المدينةَ قابَ قوسين أو أدنى من النصر، وأنه لا بد من عودتِه للاحتفالِ معهم بهذا النصر الكبير.
وفي الثاني والعشرين من شهر كانون الأول عام ألفين وستة عشر؛ رأى حماةُ القلعةِ الثلاثون بأمّ أعينهم سيفَ الدولة مرتدياً بزّةً عسكريّة، يدخلُ المدينةَ مع طلائعِ الجيشِ العربيِّ السوريّ. يتوجّه نحو القلعةِ، يصعد درجاتِها؛ ويغرسَ علمَ البلاد في ذُراها.
يومَها سقط على ترابِ حلب مطرٌ غزيرٌ، ورصاصٌ كثيفٌ، ورايةٌ سوداء.
رقم العدد 15613