الإنصاف مسيرة الناجحين

الجماهير / بقلم: الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة

تنطوي النفس البشرية عند كلّ إنسان على الكثير من القناعات والعديد من الأفكار التي قد تتَّفق بها مع غيرها، أو تختلف، لذا فإنّ إطلاق الأحكام على الناس يستدعي العدالة والإنصاف من عُمق الإنسان، وأن يتعامل مع الأفكار بحياديّة، فالفصل بين الفكرة، وصاحبها أساسٌ في تقييم الفكر وفضِّ النزاعات بين الناس.
يوجد في هذه الدنيا الكثير من الناس الذين يقفون في تعاملاتهم مع الآخر مواقف سيّئة، وقد يكون لبعضهم سِجِلَّاً حافلاً بالمواقف الجيّدة والحسنة، وهنا، فإن الإنصاف، والعدل يقتضي أن لا نلقي بكل ما هو جيّد وراء ظهورنا، واضعين نُصب أعيننا موقفاً أو اثنين سيّئين فقط، بل يجب أن نوازن بين ما هو حسن، وما هو سيّء، وكلُّ ابن آدم خطَّاء.
لذلك لا يمكن لعاقلٍ أن ينسف فيضاً من الخيرات من أجل سيئةٍ واحدة، ولا أن يتخلى عن سنين من الصداقة من أجل يومٍ من العِداء؛ بل العكس هو الجدير بالعقلاء؛ نعم إن العاقل من يمحو خطأ اليوم بكثير الصواب الذي مضى، ويتغاضى عن خلاف لحظة من أجل وفاق سنين. إنه الإنصاف.
إن التّحلّي بصفة الإنصاف، والسير في طريق المنصفين يستلزم التقيّد بآداب خاصّة، وأهمّها:
1. تحرّي المقصود من كلام الآخر: وكلّ أصحاب رأيٍ أو اتجاه يُلبسون رأيهم بأحسن ما يعرفونه من الكلمات، ويسمون رأي مخالفيهم بأقبح ما يقدرون عليه من الألفاظ، والحقُّ أن من أكرمه اللّه بالإنصاف لا يغترّ باللّفظ كما قال الشاعر:
تقول هذا جنى النّحل تمدحه…
وإن تشأ قلت: ذا قيءُ الزّنابيرِ
مدحاً وذمّاً وما جاوزت وصفهما..
والحقّ قد يعتريه سوء تعبير
2. توجيه النقد للرأي وليس لصاحبه: فالنّقد الموضوعيّ هو الّذي يتّجه إلى الموضوع ذاته وليس إلى صاحبه. وكان رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم إذا حدث خطأ من أحد أصحابه أو بعضهم. لا يسمّيهم غالباً وإنّما يقول: «ما بال أقوام»، «ما بال رجال».
3. الامتناع عن المجادلة المؤدية إلى الخلاف: وقد حذّر الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم من الجدل المفضي إلى الخصومة فقال: (إنّ أبغض الرّجال إلى اللّه الألدّ الخصم) رواه الشيخان. وقال الإمام مالك بن أنس: (المراء يقسّي القلوب، ويورث الضّغائن).
4. حمل كلام الآخر على ظاهره وعدم الغوص بحثاً عن البواطن: وقد علّمنا ذلك رسولنا الكريم صلّى اللّه عليه وسلّم حينما بلغه خبر قتل أسامة بن زيد للمشركٍ بعد أن قال ذلك المشرك كلمة التوحيد: (لا إله إلّا اللّه)، حيث أنكر صلّى اللّه عليه وسلّم ذلك على أسامة، فقال أسامة: إنّما قالها متعوّذاً ـ أي محاولاً الفرار من القتل ـ فقال صلّى اللّه عليه وسلّم: هلّا شققت عن قلبه)
5. التثبت قبل إصدار الأحكام: وذلك امتثالاً لقول اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ} [الحجرات/ 6]والتّبيّن والتّثبّت من خصائص أهل الإيمان، ومن علامات أهل الإنصاف.
6. حمل الكلام على أحسن الوجوه، وإحسان الظن: فالواجب على ذي العقل أن يحسن الظّنّ بكلام الآخر ، وأن يحمل كلامه على المعنى الحسن.
7. ألّا ينشر سيّئات المخالف ويدفن حسناته: ونجد مثال ذلك واضحاً في تعامل رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم في حادثة حاطب بن أبي بلتعة الذي كتب إلى أهل مكة يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد غزوهم فدلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المرأة التي معها الكتاب وأحضره، فقال: يا حاطب أفعلت؟ قال: نعم، أما أني لم أفعله غشاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفاقاً قد علمت أن الله مظهر رسوله وسم له أمره غير أني كنت بين ظهرانيهم وكانت والدتي معهم فأردت أن اتخذها عندهم. فقال له عمر: ألا أضرب عنق هذا فقال تقتل رجلا من أهل بدر وما يدريك، وما يدريك يا عمر لعلّ اللّه قد اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) رواه أحمد. وكون حاطب من أهل بدر ترفعه ويذكر له في مقابل خطئه الكبير، ولذا غفر له خطؤه.
8. الاعتراف بالحقّ وإن صدر من الآخر: وقد رُويَ أنه طلب عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الناس ألا يُغالوا في مُهور النساء، فقامت امرأة وقالت: يا عمر يعطينا اللهُ وتحرِمنا، أليس الله يقول: {وآتيتم إحداهُنَّ قِنطارا} والقنطارُ هو المالُ الكثير. فأدركَ عمر صواب قول المرأة، فرجع عن رأيه، وقال: “أصابت امرأة وأخطأ عمر”.
إذا فالإنصاف يحتاجُ إلى الرويّة، تترجِمُها وقفةٌ في النفس القوية، وهمّة في الروح العليّة، وهو يقتضي منّا قبولُ الحقِّ ولو كان مرًّا، والعملُ بالصدقِ ولو كان سِرّا، هو نيّةٌ تسمو على واقع الحال، وفهمٌ يدعو لتطويرِ المآل، وسلوكٌ لا يجيدُه إلا الرّجال.
ما أحوجنا إلى هذا الخُلق العظيم “الإنصاف” إنه يبني الفرد والمجتمع على حدٍّ سواء.
رقم العدد 15886

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار