الاختلاف : سلامة التفكير وسبيل التغيير

الجماهير / بقلم الشيخ الدكتور ربيع حسن كوكة
إن الاختلاف حقيقةٌ كونيةٌ لا يمكن لأحدٍ من العقلاءِ أن يُنكرها، فقد خلق الله سبحانه هذا الكون وأقامه على التمايز والاختلاف، بل وجعل الاختلاف في الظواهر الكونية آيةً من الآيات الدالة على قدرته سبحانه فقال: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآياتٍ لأولي الألباب}[سورة آل عمران الآية: 190]، وكذلك نجد الاختلاف بين البشر حيث قال: {ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآياتٍ للعالمين}[سورة الروم، الآية:22] .
إن عملية الإثراء الثقافي والعلمي ومقياس تطور الحضارات والمجتمعات والشعوب، تقوم على ثقافة اختلاف الرأي، وقبول ذلك الاختلاف من أحد الطُرق التي تؤسس لمبدأ الشورى الذي دعت إليه الشرائع السماوية، ولقد نبَّهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضرورة قبول آراء الآخر وعدم التمسك بالرأي فإن ذلك من علامات فساد الزمان حيث يقع الاختلاف السلبي الذي يُرسّخ العداوة والتفكك؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتَ شُحًّا مُطاعًا، وهَوًى مُتَّبَعًا، ودُنْيا مُؤْثَرَةً، وإعجابَ كلِّ ذِي رأيٍ برأيِه، فعليكَ بخاصةِ نفسِكَ، ودَعْ عنكَ أَمْرَ العَوَامِّ) رواه الترمذي.
بيد أنَّ الاختلاف السلبي ـ خلافاً للاختلاف المنشود ـ ينعكس على القلوب فيجعلها تتنافر؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسوّي صفوف الصلاة: (لا تختلفوا ؛ فتختلف قلوبكم ) رواه مسلم.
ويعود السبب الرئيسي في الاختلاف السلبي إلى التمسك ببعض العادات والتقاليد القاتلة لقبول الآخر .
لذلك ينبغي أن تسود روح الاحترام والقبول للآخر كما هو وليس كما نحن نريد، وأن تعددية الآراء والأفكار والنظريات لا تمنع من العمل سويةً للوصول إلى كل ما يُسعد الإنسان في هذه الدنيا.
إن المجتمع بحاجةٍ ماسّةٍ لقبول الآخر بما يحمل من ثقافة الاختلاف لأن ذلك القبول سيؤدي إلى حلول التغيير مكان النمطيّة، وإلى التطوير مكان التجمّد، وإلى الانفتاح مكان الانغلاق والتقوقع على الذات، وإلى التنوّع مكان التجانس والتشابه، سيتحوّل المجتمع من السلبية إلى الإيجابية، من جاهلية القهر إلى ثقافة المشاركة سيغادر مستنقعات أوهامَ التطابق إلى فضاءات وعي الاختلاف الممتدّة.
إن المجتمعات الإنسانية عبر العصور تميّزت بتنوّعها واختلافها، واكتسبت الكثير من الأمم والشعوب والحضارات القوة والاستمرار من خلال ذلك الاختلاف والتنوّع.
إن الاختلاف والتنوع سيجعل الناس يؤمنون بوجود اختلاف في وجهات النظر فيما بينهم، وبالتالي هذا الاعتقاد، سيدفعهم إلى تغيير تصرفاتهم.
ولقد أجرى بعض علماء النفس تجارب على تجمعاتٍ بشرية تتكوّن من أعراق وأديان وثقافات مختلفة فوجدوا أن ذلك الاختلاف يُحفّز تلك المجتمعات على الإبداع والابتكار وإثبات “الذات الجمعيّة” بمعنى آخر إثبات التطلعات الاجتماعية وتحقيق ما يصبو إليه المجتمع ككُلِّ يحوي في داخله الآخر المختلف.
فمثلاً أجرى أحد علماء النفس والاجتماع دراسة تتمحور حول عملية اتخاذ القرار في لجنة المحلفين. فوجد أن حجم تبادل المعلومات خلال مناقشة قضية مُعينة، كان أوسع بكثير في المجموعات المتنوعة عرقيًّا من تلك التي ضمت فقط أعضاء بيض البشرة. تعاون ذلك العالم مع القضاة ومديري لجان المحلفين في المحكمة من أجل تنفيذ محاكمة ضمت لجنة المحلفين فيها أعضاء مزيفين وحقيقين. كان المشاركون على دراية تامة بأن المحلف المزيف هو جزء من تجربة ترعاها المحكمة، ولكنهم لم يعرفوا أن هدف هذا البحث هو دراسة تأثير التنوع العرقي على كيفية الوصول إلى قرار في لجنة المحلفين.
قسم عالم النفس المشاركين إلى لجان تضم كل واحدة منها ستة أعضاء، واتبع نظامًا معينًا بحيث كانت كل لجنة تتكون إما من ستة أعضاء بيض البشرة، أو من أربعة أعضاء بيض البشرة واثنين من أصحاب البشرة السوداء. وعلى وفق التوقُّع، تفوقت اللجان التي ضمت محلفين ذوي خلفيات عرقية متنوعة في فهم حقائق القضية ومعالجتها، وارتكبت عدة أخطاء أقل عند استرجاع المعلومات المرتبطة بها، وأظهرت انفتاحًا أكبر عند المناقشة.
وبطبيعة الحال، ليس من الضروري أن تكون بوادر التقدم هذه عائدة إلى المعلومات الجديدة التي قدمها الأعضاء ذوو البشرة السوداء، بل يجب إرجاعها إلى التغيُّر الذي حدث في تصرفات المحلفين البيض في أثناء وجود محلفين سود في اللجنة. فالتنوع إذن أسهم في جعل أولئك الأشخاص أكثر اجتهادًا وانفتاحًا عن غيرهم.
إن الاختلاف يعززُ التفكير والعمل المبدع، من خلال تحفيز العقل على التفكير بوجهة نظر الآخر، و يمكننا تشبيه المُعاناة التي قد تُرافق الاختلاف بالألم الناتج عن التمارين الرياضية. إذ يجب أن يُجهد الرياضي نفسه كي تنمو عضلات جسمه..
إن وجود الاختلاف والتنوع في المجتمع، يُساهم في إيجاد تغيُّرات في السلوك مما يجعل المجتمع أكثر إبداعاً وابتكاراً وتطوّرا.
رقم العدد 15918

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار