الجماهير / أحمد منير سلانكلي
لدوافع شتى وأهداف متعددة كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن منشأ اللغة العربية وأقدميتها بين اللغات والبحث في أسرارها وفضائلها والتبحر في عوالمها ودقتها وتأكيد علو مكانتها وتميزها حتى أنه صار هناك ما يشبه التنافس بين الكتاب والباحثين في عرض أفكارهم وتأويلاتهم في هذا المجال فكان منهم من أصاب ومنهم من أخطأ عن قصد أو بدون قصد ذلك حين حاول بعضهم التقليل من شأنها ومكانتها وتاريخها وعطائها نتيجة أفكار خاطئة ومعلومات تاريخية وعلمية (مدسوسة) مغرضة عن تاريخ منطقتنا العربية بثها الفرنسيون والإنكليز أثناء احتلالهم البلاد العربية في أوائل القرن الماضي.
فمنهم من قال بقدم اللغتين السريانية والآرامية على اللغة العربية داعماً قوله بالتشابه والتماثل بين الكثير من الكلمات العربية مع كلمات ومفردات من تلك اللغات ناسياً أو متناسياً أن هذا أمر طبيعي وغالباً ما ينشأ نتيجة التجاور والتقارب بين متحدثي تلك اللغات.
إذ لا فاصل ولا مانع يمنع التشابه والتلاقح في الكلمات والمعاني وقد لا نتعجب حين نرى في هذه الأيام أن الكثير من الكلمات الإنكليزية والفرنسية والتركية ذات أصل عربي.
واستند البعض في قولهم إلى أن الإنجيل الذي أنزل على سيدنا عيسى عليه السلام أنزل باللغة الآرامية وبما أن رسالته جاءت قبل رسالة النبي العربي محمد عليه الصلاة والسلام فإنها الأقدم ولكن ألم يسأل هؤلاء أنفسهم: أين كان العرب؟ ومن يتحدث اللغة العربية آنذاك؟ وهل إن تاريخ تلك المنطقة يبدأ برسالة سيدنا المسيح عليه السلام؟ لماذا لم يستقرئوا التاريخ ويطلعوا على المعاهدات التي كان يجريها المحتلون الرومان مع القبائل العربية التي سكنت بلاد الشام؟!
واستند بعضهم إلى رأي يقول: إن اللغة العربية ولدت مع ولادة الإسلام وإن اللغة العربية ولدت في بلاد الشام والعراق بعيد الفتوحات الإسلامية ومثل هذا الرأي مردود ولايستند إلى أي حقيقة أو منطق لأننا لو تتبعنا التاريخ الأدبي في هذه المنطقة ورصدنا شعراءها لتبين لنا أن اللغة العربية كانت قبل الفتح الإسلامي بكثير ولعل هؤلاء لم يقرؤوا شيئاً عن تاريخ ولادة المتنبي وبين من كان ينشد أشعاره وأين كانت ملاعبه وحياته ولم يسمعوا بالشاعر جرير المولود عام 30 للهجرة والفرزدق الذي أدركته المنية عام 114 للهجرة والأخطل الذي ولد عام 19 للهجرة والذي قضى عمره وأنشد أشعاره ما بين العراق والشام وغيرهما الكثير من الشعراء.
لست هنا لأحدد وأبين قدم أو حداثة تلك اللغات ولكنني أريد القول: إن هذه المنطقة من العالم ومنذ أن وجدت كانت متعددة الثقافات والديانات كونها تتوسط العالم القديم وما هذا التعدد إلا فضل من الله أراد به أن يزيد من ثراء تلك المنطقة لتهب العالم ذلك الإبداع الإنساني الذي يجب أن نقر به بلا تعصب أو خوف لأنه تعدد يزيد من جمال هذا العالم ويغني إبداعه الإنساني في مختلف المجالات وعلى مر العصور والأزمنة.
فالبلاد العربية غنية بشعبها وبأرضها وبتراثها الذي يتمثل في لغتها العربية التي مازالت تغنينا وتغني العالم بجمالها وسحرها ففي كل حين يتكشف للباحثين سر جديد وإعجاز قد لا يكون في أي من لغات العالم.
وبالأمس وجدت وأنا أبحث في معنى إحدى الكلمات أنني أستطيع فهم المعنى الحقيقي والأقرب للكلمة إن قرأتها من اليسار إلى اليمين فمثلاً: كلمة (دسّ) إن قرأناها من اليسار إلى اليمين تصبح (سدّ) وتلك تعطينا المعنى الحقيقي الذي يقابل كلمة (دسّ).
ومثلها كلمة (خدش) التي تعني كما نعلم الجرح البسيط فنرى إن قرأناها من اليسار إلى اليمين أنها تصبح (شدخ) والشدخ لغة هو الكسر والجرح الكبير وقد وردت تلك الكلمة في كثير من الكتب الأدبية أيضاً فإن عكس كلمة (فجّ) هو (جفّ) ولعل أقرب معنى لكلمة فجّ هو انبثاق الماء من الأرض وقد يكون نبع الفيجة هو أحد اشتقاقات الكلمة، ولنذهب إلى كلمة (عشق) التي تعنى التمسك بالشيء وملازمته وعكسها كلمة (قشع) التي تعني زوال الشيء وتركه. وقد تبين لي بعد بحثي في كثير من الكلمات أن هناك المئات بل الآلاف من الكلمات التي تعطي عكس معناها إن قرأناها من اليسار إلى اليمين وسأورد (غيضاً من فيض) من تلك الكلمات وعسى ألا أكون قد أطلت عليكم مثال:
(عشى- شعّ) العشا هو الليل والظلمة وقد تكون بمعنى العمى و(شعّ) هو النور الساطع قال الشاعر: عشيت عيناي من طول البكا..
(رفع – عفر) الرفع معروف والعفر هو دس شيء في التراب وما شابه.
(حق- قح) الحق معروف والقح من قل حياؤه واجترأ على الخير.
(ضاع- عاض) وكلنا يعلم أن العوض هو عكس الضياع.
(رك- كر)رك معناها ضعف وانقطع أما الكر فهو الجري والعدو والهجوم.
(شد- دش) الشد معروف والدش هو الترك وهي معروفة ومتداولة عند العامة، يقال شد الحبل ثم دشه وتركه.
(مزح- حزم) المزح هو الهزل والتسلية والتحدث بلطف بغرض الضحك أما الحزم فهو أخذ الأمور بشدة وجدية وتعقل.
(حش- شح) حش أخذ الشيء بأجمعه أما الشح فهو القلة وعدم الوفرة في كل شيء.
(عقر- رقع) عقر تأتي بمعنى ذبح وطعن وقطع أما رقع فتأتي بمعنى أصلح الرقعة أو سد ما عقر وإصلاح الخرق.
(سكر- ركس) سكر تأتي بمعنى أغلق أما الركس فهو رد الشيء أو إخراج الشيء المغلق عليه عنوة.
قال تعالى:(والله أركسهم بما كسبوا) وفي التفسير القرآني إنه إخراج ما أكل حراماً وتقيؤه.
ومنذ أن تبينت ذلك لم أترك كلمة إلا وقرأتها معكوسة فوجدت أن هناك مئات بل آلاف الكلمات التي تتمتع بتلك الخاصية الفريدة وآمنت بإعجاز لغتنا وبرواية مرتضى الزبيدي صاحب تاج العروس في أصل اللغة حين قال: إن لغتنا لقنت تلقيناً من الله لركاب سفينة نوح عليه السلام لأن الله أراد لها الانتشار وإني من خلال ما وفقني الله به في كتابة هذا العرض أدعو المهتمين إلى إكمال ما بدأت به.
رقم العدد 15955