الجماهير – أسماء خيرو
بالقرب من شارع السجن في حارة من حارات حلب القديمة، وفي أحد أسواقها المعروفة بأزقتها الضيقة، وداخل بيت عربي، حجارته السورية القديمة قدم حلب تحتضن ذكرى ذلك الزمن الذي مضى إلى غير عودة، جلس الحاج محمود ميمة بين بضاعته المتناثرة هنا وهناك، ففي كل زاوية من زوايا بيته القديم الذي حوله إلى دكان لبيع صناعات شرقية متنوعة، ورث مهارة عملها من والده، يمكنك أن تلحظ الطربوش العربي بمختلف الأشكال، والربابة بتصاميم متنوعة، ومزاهر بأحجام مختلفة، ليبدأ حديثه بكلام تقرأ بين سطوره الحسرة والألم عن مهنة يدوية لم تعد تلقى الاهتمام المطلوب بين شباب هذا العصر!.
الحاج ميمة قال للـ”الجماهير”: كنت في العاشرة من عمري عندما تعلمت صناعة (الطربوش- والربابة -والمزهر ) دأب والدي على تعليمي هذه الصناعات منذ نعومة أظفاري فأتقنتها بالرغم من صغر سني. واليوم وبعد أن بلغت من العمر مايفوق الستين مازلت أعمل بهذه المهنة ولو كان بإمكاني أن أورث هذه الصناعات لأولادي لما قصرت، ولكن هيهات أن تعود هذه الصناعات للحياة فلم يعد لديها راغب، ولايوجد في اليد أية حيلة، فمعظم الشباب يبحثون عن مهن تدر عليهم الأرباح المادية، ومن بينهم أولادي الذين عجزت عن إقناعهم بأهمية هذه المهنة .
وعن هذه الصناعات أردف الحاج ميمة قائلاً: الحديث عن هذه الصناعات الشرقية يطول ويحتاج إلى ساعات وساعات، ولكن سوف أتحدث بإيجاز عن طريقة صنع ماوهبني الله من علم يدوي. أولا سأبدأ بالحديث عن طريقة صنع الطربوش الذي كان فيما مضى يصنع من وبر الجمل وشعر الماعز الذي يوفر للرأس الحرارة في الشتاء، والبرودة في الصيف، ولكن اليوم إن وجد هذا الطربوش فإن سعره يصل إلى أكثر من ٢٥ ألف ليرة سورية.
أما في وقتنا الحاضر فالطربوش أصبح يدخل في صناعته (قماش المخمل بدلاً من وبر الجمل أو شعر الماعز، والكرتون للقالب، وخيطان القصب للتزيين) في البدء نضع الكرتون بقطر 25سم على القالب ثم نلصق المخمل الأحمر أو البني أو الأسود على الكرتون، وبعد ذلك نضعه على آلة المكبس، وفي المرحلة النهائية نقوم بالتطريز بخيط القصب على الطربوش ونضع له (الشرشوبة) وهي الخيوط الحريرية السوداء الموضوعة في زاوية الطربوش، وكل لون من ألوان الطربوش يستعمل لمناسبة مختلفة .
وبملامح غير راضية متحسّرة عما آل إليه عمله الذي كان فيما مضى له رواج ويحقق مكاسب مادية لابأس بها، انتقل الحاج ميمة ليتحدث عن صناعة الربابة فقال: نستخدم خشب حور لجسم الربابة ثم نلبس الجسم بجلد الماعز حصراً حتى يعطينا صوت الحنين الذي تمتاز به الربابة؛ لأن نوع الجلد يؤثر بشكل مباشر على جودة الصوت عند العزف، ثم نشد الوتر المصنوع من الشعر الصناعي على الجهة الأمامية من جسم الربابة. أما القوس فنستخدم له عود الرمان ونشد عليه (الأيفونة) وهي مصنوعة من شعر” الفرس” وتتفاوت أسعار الربابة حسب النوع ومتانة التصنيع فالمطعّمة بالصدف تكون عادة أغلى بكثير من الربابة العادية.
ثم أمسك الحاج ميمة نحو المزهر المعروف (بالدف) وبدأ يطرق عليه ليسمعنا النغمات التي يصدرها والتي تختلف مع اختلاف حجم المزهر، فالحجم الكبير يعطي نغمة مختلفة عن المزهر ذي الحجم الصغير على حد قوله، وتابع حديثه عن كيفية صناعته قائلاً : “المزه” أو”الدف” يستخدم في الحفلات الدينية “المولوية” تبدأ مراحل تصنيعه من إطاره الدائري المصنوع من خشب الجوز، فلا يجوز استعمال نوع آخر من الخشب لصناعته وهو معروف باسم (الطارة) وله قياسات عديدة فالبعض منه ذو قطر صغير والبعض الآخر ذو قطر كبير حسب الطلب. ثم يثقب الإطار الخشبي بثقوب صغيرة ،ويحبك بخيوط سميكة جداً، وفي المرحلة الأخيرة يشد عليه جلد الماعز أو البقر ( العكوش الصغير) وبذلك يكون جاهز للاستخدام.
وختم الحاج ميمة اللقاء متحدثاً بنبرات حزينة إذ قال: مهنة الصبر هذه وصناعة أيام زمان التي تعتبر بالنسبة لي مصدر رزق وحيد، مهددة اليوم بالاندثار، فلم يبق أحد يعمل بها سوى ورشات قليلة تعد على الأصابع، ولاتتعدى الثلاث ورشات، فمعظم الورشات أغلقت أو حول أصحابها عملهم إلى مهن أخرى تدر عليهم أرباحاً وتضمن لهم دخلاً مادياً مناسباً يعينهم على تكاليف الحياة التي أصبحت تعاني من الغلاء الفاحش، والكميات التي تباع في السوق المحلية من هذه الصناعات تعد بسيطة مقارنة بأيام زمان ومردودها المادي يكاد يسد الرمق، والزبون حالياً يأتي كي يتفرج ويلتقط الصور التذكارية “السيلفي” بجانب اللباس العربي والطربوش ومختلف الصناعات اليدوية المعروضة للبيع في هذا الدكان .
رقم العدد ١٦٠٤٦