أفكار أولية حول مفهوم “الطرب” 2/3

 

زكريا كردي

في كتابه ” مدخل إلى الموسيقا ” الصادر عن مكتبة بغداد 2015 ترجمة الأستاذ ثائر صالح يشرح لنا العالم ” أوتو كارويي” أن الصوت لا يتكون إلا بسبب نوع من الحركة، وأن الحركة (أو الاهتزاز) الناتجة من جسم مهتز (كالحبال الصوتية أو الأوتار على الآلة الموسيقية) ، هي التي تولّد ذبذبات وأمواجاً تنتقل عبر الهواء – أو أي وسط مادي آخر – بسرعة تبلغ 335 م في الثانية “.
ويُبين لنا المؤلف كيف أن الإيقاع والسرعة هما ما يعطي للموسيقا حيويتها وحرارتها .. وقد شبههما المؤلف بالجهاز العصبي للموسيقا، لأنهما يحددان سوية صفة أو طبيعة اللحن الموسيقي.
ونحن بالطبع لا ننسى أن نذكر بأن هناك خاصية مهمة جداً في أي لحن كان، ألا وهي خاصية التوازن، أي بمعنى أنه يجب أن يكون التوتر والارتخاء في اللحن بنسب صحيحة، وتحليل أعداد كبيرة من الألحان يرينا أن اللحن إن سار باتجاه الصعود لابدّ وأن سيعود بعدها نازلاً إلى الأسفل عاجلاً أو آجلاً للوصول إلى حالة التوازن، والعكس صحيح، وهذا التوازن – في تقديري – هو ما يجعل اللحن سلساً وطبيعياً .
ولكي نفهم ذلك أكثر ، علينا أن نعلم أولاً أن اللحن ( المُؤلف من عدة جمل موسيقية ) هو من الناحية الفيزيائية ليس أكثر من سلسلة من الأصوات، ولهذا واستناداً إلى هذا التحديد، حتى السلم الموسيقي يصلح لأن يكون لحناً، لكن السلم الموسيقي بحد ذاته ليس لحناً، بل هو شيء أشبه بالهيكل الذي يبنى عليه اللحن، لأن اللحن هو أكثر من ذلك بالطبع، وكلمة (أكثر) يُقصد بها تلك الروح التي تعطي سلسلة الأصوات تلك معنىً داخلياً، وقدرة على الحياة ..
بمعنى أن تلك الجُمَل الموسيقية تبقى جامدة يابسة، إلى أن تنفخ فيها الروح والحياة من خلال التنويع الموسيقي .. والذي هو عنصر هام جداً وأساسي، ولكن – في اعتقادي – أهم عنصر بين كل وسائل إدخال التنويع إلى الموسيقا وأكثرها سحراً ، هو هنيهة التحويل في العلامات، ولحظة الانتقال بين المقامات بخفة ومهارة وموهبة ..
ولأن احتمالات تنويع اللحن لاتعد ولا تحصى، سوف يستحيل على أي باحث إعطاء وصف كامل أو فهم دقيق لكل خصائصه.. ولكن يمكن القول إن هذا التنويع أو التحويل في الموسيقا يعني ببساطة : الانتقال من مركز نغمي إلى مركز نغمي آخر..
ولتوضيح معنى السلم الموسيقي يقول مؤلف كتاب مدخل إلى الموسيقا :
“إن السلالم الموسيقية ظهرت خلال السعي الدؤوب لصنع الموسيقا، وخضعت مع الزمن للتعديل والتطوير جيلاً بعد جيل ، حتى وصل الفن درجةً عالية من التطور. ثم بعد ذلك، يبين لنا:” أن كلمة (الأوكتاف) هي كلمة لاتينية وتعني سلماً، وأن السلم الموسيقي هو على أنواع :
منها السلم البنتانوني (المكون من خمس نغمات) والسلم الهندي ” راكا “، والسلم الأساسي في الموسيقا الأوروبية هو السلم الدياتوني (ذو الاثنتا عشرة نغمة) وهو يتألف من تونات وأنصاف التونات على مدى أوكتاف كامل “.
فمثلاً ” لو عزفنا على البيانو العلامات البيضاء من (دو ) الوسطى حتى (دو ) الجواب يكون قد عزفنا ما يسمى بسلم (دو ماجور) أو الكبير، وسميّ بالسلم الكبير لمواصفات أبعاده الموسيقية والعلاقة بين التون ونصف التون، ويضيف المؤلف أن ما يعطي السلم الكبير خاصيته هو البعد (المسافة المميز بين النغمة الأولى والثالثة في السلم)، والذي يسمى الثالثة الكبيرة .
لكن ما يهمنا ذكره هنا، أن السلم الموسيقي الشرقي و(العربي)، يستعمل بإعجاز وفرادة (سبعة عشر نغمة . وهنا بيت القصيد .. بل – في رأيي – هو بيت أصل الطرب الذي نبحث في جوهره ونرشف من ينبوعه.. و” لأن الرتابة في الفن جريمة لاتغتفر” كما يقال ، فأنا أعتقد، أن هذا الطرب أو” التجلي الرحماني ” بلغة أهلي في حلب ، ينبثق في النفس الذائقة الطربية بالتحديد – موسيقياً – عند لحظة التحويل (أو الانتقال) في المقامات الموسيقية المُغنّاة ، أكثر من المقامات الموسيقية المعزوفة ..
وأغلب الظن أنه أثناء هذا الانتقال بالذات يحدث الطرب، أي أن الطرب يتخلّق أوان اللحظة العليا من الانسجام بين الإيقاع العام واللحن والكلمة والأداء و .. إلخ .
ويظهر عند استئثار كل ذلك بفيوض مجرى الأحوال النفسية والذهنية للمنتبه الحصيف ، ومن ثم مساعدته شيئا فشيئاً على التركيز وتوجيه الشعور نحو موضوع الجملة النغمية المبتكرة التي تستقبلها حواسه.
ومن هنا اعتقدت، أن ذروة التركيز الذهني للمتلقي، هي العنصر الجوهري والأساس في حال الطرب، ولهذا أجزم بأنه يتولد من شدة التركيز وليس من حال التغييب والذوبان أو الضعف كما يرى البعض ، إذ لا يُمكن – في رأيي – أن يُطرَب المرء من إبداع موسيقي ما، لا يُرَكز فيه سمعه وتتشبّع منه حواسه بسلاسة إبداعية تجعل ذهنه يثمل شوقاً ووجدانه يختلج طرباً وتوقاً …
وبالطبع هذا التركيز الطربي – إن جاز التعبير – لا يأتي فجأة، أو دفعة واحدة على حين غرة، بل يُبنى تدريجياً في إدراك المتلقي، وذلك عبر ربط تلك الفيوض الرهيفة والأحاسيس الدقيقة والمتراكمة بمبعث النشوة في مكنونات ذاكرة الشخص المطروب ..
ثم تنبلج إثر ذلك اللحظة الطربية فجأة، لتستحوذ على وعيه وأركان شعوره، ثم تدخله في لحظات طربية ممتدة، جميلة وبديعة، قد يندهش لها هو ذاته، إن وعاها لاحقاً .
رقم العدد ١٦٢٣٤

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار