الإرث الفكري بين الإقبال والإهمال

الجماهير – بقلم ربيع حسن كوكة

هيا نتابع ما بنى الأبداعُ
فبه نسيرُ إلى العلا ونُطاعُ
في إرث أهلِ الفضلِ إلهامٌ لنا
أقوى البناء سواعدٌ وقلاعُ

إن الاستفادة من الخبرات السابقة التي تعني أن يبدأ المرءُ من حيث انتهى الآخر، أو أن يُقدّم السابق للّاحق خلاصة خبرته، وعُصارة تجربته.
وتُعتبر هذه المسألة في أيِّ عمل من أهم أسباب نجاحه واستمراره لأنها توفِّر الجهود، وتختصرُ الوقت، وتتجنب الأخطاء.
ومن الملاحظ أن المؤسسات العامة بسائر فروعها وعلى كافة مستوياتها لا تُعطي لهذه المسألة أهميتها الصحيحة، فتجد المسؤول يترك موقعه الذي شغله لسنوات فيحلُّ محله شخص لا يتقنُ العمل ولا إدارة المكان، فيبدأ من جديد بتكوين خبرة تُعتبر من ألف باء خبرة سابقه مما يُعيق تقدّم المؤسسة إن لم نقل أن ذلك يُسهم في تراجعها، فقد يكون المدير السابق قد شرع في حلِّ مشكلة ما، أو شارف على الانتهاء من مُعضلةٍ ما فتنتهي خدمته ويأتي بديله ليطوي ملفات سابقه دون أن يعبأ بها وليهتمَّ بأمورٍ أُخرى.
ونجد بعض الناس ممن يتبوءون المراكز في المؤسسات يفتتحون نشاطهم العملي بتبديل أثاث المكتب الذي كان للمدير السابق؛ ثم تمتدُّ أيدي التبديل إلى سائر المؤسسة في هدرٍ واضحٍ للمال والوقت والجهد مما هو ليس ضرورياً أصلاً ولا يدخل في جوهر العمل المؤسساتي.
إن جوهر الاستفادة من خبرة الغير وإرثه لا يعني الاستسلام والاستكانة لكل ما تركه من فكرٍ أو عمل بل يتمثّلُ في استكمال ما بدأ به من أعمال مفيدة.
أرأيت لو أن إنساناً شرع في بناءٍ ما، ثم مات قبل إنهائه ماذا يفعل ورثته ؟ هل يتركون ذلك البناء للرياح؟! أم أنهم يسعون في إنهائه لتحصل الفائدة منه.
وإذا قرأنا في تاريخنا سنقف أمام وقائع هامة في هذا المضمار، فقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تاركاً إرثه المعنوي في صدور الصحابة من قرآن وسنّة ولولا أنهم نقلوه ودوّنوه واهتموا به لما وصل إلينا. ويَصدُقُ الكلامُ نفسه على سائر العلوم والمعارف.
وإذا توجّهنا بالحديث نحو مسألةٍ أكثر تجريداً، يمكن أن نفترض عالماً شارف على الانتهاء من إثباتِ نظريةٍ علمية معينة ومات قبل إنهائها ألا يجدر بالهيئة العلمية المُطّلعة أن تُشكل لجنة لاستكمال عمل المتوفى لتتم الاستفادة منه في مجاله.
وإذا أردنا أن نتحدّث عن أمرٍ عرفناه وشكرنا سعيه فليكن حديثنا عن كتابٍ تركه أحد شخصيات حلب المعروفة؛ فبعد وفاة خير الدين الأسدي في سنة (1971م) ترك كتابه ” موسوعة حلب المقارنة” مخطوطاً فقامت مجموعة من الأشخاص المهتمين بالتراث مؤلفة من: الدكتور إحسان الرفاعي، والدكتور عبد الكريم شحادة، والدكتور أحمد يوسف الحسن، والأستاذ ناظم صقال، والأستاذ محمد سراج الدين، والأستاذ نبيه الجبل، والدكتور عمر دقاق، والدكتور إحسان الشيط، والدكتور طه كيالي، والمهندس وليد إخلاصي، والأستاذ عبد الوهاب صابوني، والمحامي جبرائيل غزال، والأستاذ عبد الفتاح رواس قلعه جي. قامت هذه المجموعة بتكوين لجنة تحضيرية للوصول بالموسوعة إلى النّشر في معهد التراث العربي في جامعة حلب وكان لهم ما أرادوا بعد جُهدٍ مشكور. ولولا هذا الاهتمام لما عرفنا موسوعة الأسدي التي احتلّت مكانها في تراث هذه المدينة العظيمة.
إن الالتفات إلى الإرث الفكري والعلمي والعملي للأشخاص الصالحين في أيِّ موقعٍ كانوا، وإعطائه القدر الذي يستحقه من الأهمية يُساهم بشكلٍ فعّال في خلق مناخٍ تطوّريٍ عالٍ ليس في المؤسسات فحسب بل في سائر أرجاء المجتمع، وبالمقابل فإن الغفلة عنه يجعل المجتمع بأسره في حالة من السبات المستمر ذلك السبات الذي لا يأتي بخيرٍ أبداً. فيا ربنا اجعلنا من ورثة الخير والفضيلة وأكرمنا بأهليةِ الزيادة عليه وتعميقه وترسيخه.
رقم العدد ١٦٢٩٦

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار